انطلاقاً من إيمانها بأنّ الفنّ هو الطريق الأمثل للتسامح، تواصل «مؤسسة سمير قصير» إقامة «مهرجان ربيع بيروت». برنامج هذه السنة يدور حول ضيف هذه الدورة المسرحي والمخرج والكاتب وجدي معوّض (1968) الذي سنشاهد له ثلاث مسرحيات («حرائق»، «الحارسة»، و«وحيدون» ـ راجع البرنامج).
في «دم الوعود»، الرباعية التي ألّفها وجدي معوّض («ساحل»، «حرائق»، «غابات»، «سماوات»)، ينضوي كل شيء تحت عنوان التخلي. التخلي من خلال الموت. التخلي عن الأم. التخلي عن الطفولة. التخلي من خلال السكوت. السكوت عن الحروب. سكوت الذاكرة، وذاكرة الصمت التي أورثها الآباء لمراهقين بائسين: لوس (غابات)، ويلفريد (ساحل)، جان وسيمون (حرائق)، فيكتور إيليوت جونز (سماوات).
يضعنا مسرح معوّض عند حدود الإيديولوجيا، حيث العنف يستدعي إعادة التفكير في الشرعي والقانوني، والواقع والخيال، والصدمة والوهم. يستشعر قارئ/ مشاهد معوّض دعوة إلى العودة إلى ينابيع المسرح: سوفوكليس. لدى معوض، الإحالة المتكرّرة إلى أوديب أثناء تجسيد عنف الغرائز، هي أقرب إلى سوفوكليس منها إلى قراءة نفسية تحليلية. يعيدنا معوّض إلى وظيفة المسرح الأساسية أي الكاثارسيس، لا إلى علاج فرويدي. في التراجيديا الإغريقية، يستشعر المشاهد الخوف والشفقة، فيتم التطهير. في فيلم «حرائق» المقتبس عن المسرحية، يحترم المخرج الكندي دوني فيلنوف روحية مسرح معوّض فلا يظهر العنف، بل يدع المشاهد يفترضه. وإذا كان سوفوكليس عايش الحياة السياسية والفنية في أوج عظمة أثينا، وحظي بفرصة الموت قبل أن يكون شاهداً على انحطاطها، فإنّ معوّض لم يكن بهذا الحظّّ، بل ولد في البقعة الأكثر اضطراباً في التاريخ المعاصر، وغادر لبنان في الثامنة هرباً من الحرب الأهلية. بهذا المعنى، يصبح التاريخ الشخصي استعارة للتاريخ الأوسع. «حرائق» مستوحاة من محطة خلال حرب لبنان تتمحور حول شخصية سهى بشارة، اكتشفتها المصوِّرة الكندية جوزيه لامبير. على مدى عقد، جالت لامبير في الجنوب لتكتشف عزم شريحة كبيرة من الشعب اللبناني على البقاء صامدةً في وجه الاحتلال وممارسات «جيش لحد» الوحشية وما «معتقل الخيام» سوى شاهد على ذلك. معوّض المرتاع من جهله تاريخ بلده، حيث العفو ينتج فقداناً للذاكرة، استلهم من أعمال صديقته عن الخيام شخصيات «حرائق».
لكنّ مسرح معوّض لا ينحصر بمكان ولادته، بل يكاد لا يأتي على ذكر لبنان. بالنسبة إليه، تاريخ الشرق الأوسط مجرّد انعكاس، وانصهار حميم مع تاريخ الغرب. تراكم العصور والولادات والوفيات يضعنا في دوامة العنف والكره والدم. أوليست الحروب العالمية منطلقاً لمحاولة فهم الحرب في الشرق، ثم في الغرب؟
تدور الحروب بين الأشقاء، فيُرمز إليه بسفاح القربى، النقطة التي ترتكز عليها الرباعية، والحاضرة بقوة في «حرائق». من خلال اتحاد العناصر المتشابهة الذي يقوم عليه، يفضح سفاح القربى العجز عن الانفتاح على الآخر. زواج المحارم والمأساة المتكررة يساويان الضحية والجلاد لإبراز عبثية النزاعات القاتلة. في «بازار» الآلام هذه، الشخصيات كلّها تعاني وتسبّب المعاناة. وبذلك يصبح سفاح القربى تعبيراً عن اختناق الفرد في جماعته. في «حرائق»، تقتل عائلة نوال (مسيحية لبنانية) حبيبها (فلسطيني مسلم) لأنه مختلف، وتأخذ ابنها نهاد لأنّه وُلِد من دون زواج. سيصبح الطفل جلاداً، سجّاناً ومغتصباً في «معتقل الخيام» (اغتصب أمّه عندما كانت أسيرة هناك من دون أن يعرف). وبعد سنوات، يهرب إلى كندا حيث تكشف أمه هويته، وتصمت قبل أن تموت.
ازدواجية العالمين الشرق/ الغرب اللذين يتشكّلان من خلال لعبة مرايا تنعكس في أزواج الشخصيات. الأزواج هم أيضاً الصداقات العاطفية، سودا ونوال أو حتى توأم نوال المولودان من ابنها الذي اغتصبها. التوأم يرمز إلى تناقض الفرد في تقسيمه الأساسي، ويشكّل إلى جانب الأزواج، الطريق نحو الفردية لأنّ تركيبة الفرد تتشكّل بما يتناقض مع «الوالدين»، مع تقديم المساعدة للآخر وإطلاق الوعود (للأولاد، الأحباء). الوعد الذي يصعب دوماً الوفاء به، هو مصيبة شخصيات معوّض: «أنا التي خلتُ أنني مرتبطة برابطة الدم بدم أجدادي، أكتشف أنني مرتبطة بوعودي». بيد أنّ الآخر (التوأم، الصديق، الحلم) حاضر هنا لمتابعة العودة المؤلمة إلى الوعي لشخصي.

«مهرجان ربيع بيروت»: من 26 حتى 31 أيار (مايو) ـــ للاستعلام: 01/397331 ـ



«لعبة» المسرح

في إحدى المقابلات التي أجريت معه عام 2009، قال وجدي معوض: «سؤال «من أين أنت؟» لم يعد له أي معنى بالنسبة إليّ. السؤال الوحيد الذي يمكنني الإجابة عنه هو: «في أي مكان تشعر أنّك أفضل؟». أما عن المسرح، فقد وصفه بأنّه «لعبة تسمح بألا تأخذ نفسك على محمل الجد، لكنّه يسمح لك أيضاً بتغيير الحياة». ويضيف: «الذهاب إلى المسرح يعني أن تقبل الدخول في تلك المخاطرة التي تتمثّل في أنّك ستتعرّض للقلق، والإزعاج والبلبلة، وزعزعة معتقداتك واقتناعاتك. عبر الشفافية فقط، نكتشف عناصر في حياتنا، ونتعلّم أكثر
عن ذواتنا».