في النصف الأول من السبعينيات، أنجز زياد الرحباني مجموعة من الأناشيد الدينية الخاصة بقدّاس الشباب في أنطلياس صدرت عام 1977 في أسطوانة بعنوان «كيرياليسون» (حوت أيضاً نشيديْن للمؤلف اللبناني بشارة الخوري). انتشرت ألحان الرحباني الخمسة لاحقاً، فباتت من كلاسيكيات القدّاس، وراحت تُعلَّم للأطفال في المدارس، وهي: «نحن ساهرون»، «طوبى للساعين إلى السلام»، «سيّدي»، «المجد لك أيها المسيح» و«كيرياليسون». وهي إلى جانب بضعة ترانيم مستقلة أخرى («العالم جائع»، «الكنيسة»، و«إلهي رفعت إليك يدَيّ»)، تشكِّل مجمل ما أسهم به زياد في الريبرتوار الكنسي.
الأسطوانة التي زيَّنت غلافها لوحة للمبدع بول غيراغوسيان (1926/ القدس – 1993/ بيروت)، أعيد إصدارها على «سي. دي» وكاسيت عام 1995 (صوت الشرق)، لكن ما لبثت أن سُحبَت من السوق. بالتالي، إذا عطفنا ندرتها وجمالها على شيوعية زياد المتينة، نفهم سبب تهافت الناس على الحصول عليها وأهميّة الأمسية المرتقبة التي سنسمع فيها للمرة الأولى أداءً حياً لها بتوقيع مؤلفها. لكنّ هذه الترانيم لا تشكّل إلا جزءاً محدوداً من برنامج الحفلة، علماً بأنّ قيمتها الفنية تفوق رغبة نسبها إلى الإرث الديني حصراً، تماماً كـ«الإنجيل بحسب القديس متى» رائعة السينمائي الشيوعي بازوليني.
أهمّ قاسم مشترك بين الترانيم التي ألّفها زياد الرحباني هو الغنى اللحني ودسامة التوزيع. إذا استثنينا ترنيمة «كيرياليسون»، تقوم الترانيم الأخرى على قاعدة أساسية، تبيِّن مدى غزارة الجمل الموسيقية التي يختزنها المؤلف، إذ يعتمد لحناً مختلفاً لكلٍّ من الأغصان (كوبليه ـ وعددها ثلاثة في كل ترنيمة)، بالإضافة إلى لحن المذهب. في الواقع، هذا ما تفرضه نصوصها التي لا تتبع الشكل الشعري للأغنية الكلاسيكية، ما يصعِّب أساساً مهمة تلحينها. فعلاً، إنها إعجاز في التلحين، فسلاسة وتناغم الألحان الأربعة المختلفة في كل عمل، يلهيان المستمع عن متابعة الشكل غير المنتظم للنص وعن ملاحظة أن العمل يخلع لحناً ويلبس آخر بشكلٍ متواصِل. «كيرياليسون» تنطبق عليها أيضاً هذه الخاصّة، لكن لا يمكن الكلام على أغصان أو مقاطع، إذ تتألف من عبارة واحدة تتكرّر وفقاً لمجموعة من التنويعات اللحنية.
تستهَل الأسطوانة بـ«نحن ساهرون» (غناء الكورس) التي تجمع بين الموسيقى الكلاسيكية في الاستخدام الحسن لآلة الأوبوا وفي الوتريات الجميلة (تماماً كما في الترانيم الأخرى، باستثناء «سيّدي») وسلَّم البلوز الذي يزنّ عليه البيانو في البداية ثم في الخلفية. وبالعودة إلى القاسم المشترك المذكور أعلاه، لا تتمتع هذه الترنيمة بتغيرات لحنية دائمة فحسب، بل أيضاً بتبدُّل نغمتها الأساسية في مطلع المقطع الأخير. يلي «نحن ساهرون» ترنيمة «طوبى للساعين إلى السلام» (غناء ماجدة الرومي) التي تذكّر عذوبة مطلعها على البيانو بـ«التهويدات» الكلاسيكية الشهيرة... وبـ«بلا ولا شي»! هنا تفرض الجمل الموسيقية المتقابلة داخل الكورس المقسوم والوتريات، رفع القبعة لرجل صاحب موهبة فريدة في الكتابة الهارمونية التي نجدها هنا، منذ أربعة عقود، كما في آخر أعماله. أما «سيّدي» (غناء سامي كلارك)، فهي ترنيمة غوسبل بكل مكوناتها (التصفيق، النحاسيات، البيانو، الكيبورد...)، لم نسمع مثلها في تاريخ الموسيقى الدينية الشرقية. لكن الكلام الذي سعَفَنا في وصْف ما تقدَّم، يعجز عن إعطاء «المجد لك أيها المسيح» حقها (أداء جوزيف صقر ومادونا). القلب وحده قادر على ذلك، كما في أغنية «يارا»... إنها صلاة بالمعنى الموسيقي أولاً. لحنها يفوق بجماله وبساطته العديد من ألحان زياد نفسه، ويوازي أبدعها. ماذا بقي؟ «كيرياليسون» (غناء ماجدة الرومي)... يكفي القول إنها أعطت اسمها للأسطوانة للأسباب الآنفة كلها.كل هذه الروائع نسمعها الليلة (بتوزيع مختلف أحياناً) في كنيسة «دير مار إلياس» (أنطلياس)، بدعوة من الرعية والدكتور شارل جزرا. ونسمع أيضاً مجموعة من الأغنيات والمقطوعات الموسيقية التي تحترم خصوصية المكان. من ريبرتوار الأخوين رحباني وتوزيع زياد، يضم البرنامج «يا مهايرة العلالي»، «دخيلك يا إمي»، موسيقى «جسر القمر». ومن أعماله الخاصة أدرج الرحباني «مقدّمة 87»، «مقدمة بيت الدين»...
أما أداء البرنامج، فتتولاه ــ في سابقة مرحبٌ بها ــ «الأوركسترا السمفونية اللبنانية» بقيادة الأرمني كارن دورغاريان الذي نعرفه منذ حفلات فيروز في بيت الدين، والآتي خصيصاً إلى لبنان للمناسبة. ويشارك أيضاً في العزف أعضاء من فرقة زياد الحالية، بالاشتراك غناءً مع غادة غانم، إدغار عون، منال سمعان، «جوقة مار إلياس» و... سامي كلارك أيضاً.

زياد الرحباني في «تراتيل»: 20:00 مساء اليوم ـ كنيسة «دير مار إلياس» (انطلياس). للاستعلام: 410568/ 04



السوريون و«تراتيل»

يدرك السوريون أن الانتقال إلى لبنان مغامرة من الأفضل حصر الإقدام عليها بالحالات الطارئة. لذا، وضع عشاق فيروز وزياد من الجمهور السوري «خطة أمر واقع» تتلخّص في التالي: لا يمكن تفويت أي إطلالة حية للـ «سيدة»، فكانت حفلة الـ «بلاتيا» وكان الزحف كبيراً من الشام. مع زياد، يخضع الأمر لمعيار حفلات دمشق في 2009 وبالأخص في 2008. طالما لم يُعلَن عمّا يوازيها أو يتخطاها في لبنان، فيمكن الاكتفاء بالذكريات وبالتسجيل التاريخي من حفلات الـ2008. لكنّ «تراتيل» حيَّرتهم! وضعتهم أمام حدثٍ لا يمكن مقارنة مضمونه بـ «حفلاتهم»، أضِف إلى ذلك أنه سابقة قد لا تتكرَّر... فقرروا المجيء.