أثارت الحركات السلفية تساؤلات كثيرة بسبب مواقفها المتضاربة من «ثورة 25 يناير»، وانخراط بعض أطيافها في العمل السياسي. مع تزايد الهواجس من سطوة السلفيين والإخوانيين على مصر بعد سقوط نظام حسني مبارك، تكثر التحليلات بشأن مستقبل إسلاميي ما بعد الثورات. ولعل الإشكالية الأهم التي تتحكم بمسار السجال في أرض الكنانة هي: كيف سيقود هؤلاء شؤون الدولة والمجتمع عبر الإيديولوجيا الإسلاموية؟ ورغم أن حركة الإخوان المسلمين خاضت تجارب سابقة في هذا الإطار، إلا أنّ المعطى الطارئ أتى مع دخول بعض السلفيين معترك الحياة السياسية، وكانوا في السابق يرفضون الخروج على الحاكم ولم يؤمنوا أساساً بالديموقراطية، وعدّوها كفراً لأنّها «قد تأتي بكافر أو امرأة لحكم الدولة الإسلامية».
«واقع ومستقبل الحركات السلفية في مصر» (مركز النيل للدراسات الاقتصادية الاستراتيجية، تقديم عمار علي حسن، تحرير أحمد بان ــ 2013) الذي شارك فيه عدد من الباحثين (علي عبد العال، مصطفى زهران، سمير العركي، محمود عبده، صلاح الدين حسن، ماهر فرغلي) يحاول تسليط الضوء على البانوراما السلفية الراهنة، ساعياً إلى رصد تحولاتها ورؤيتها للثورة وتدرج بعض أطرافها إلى ساحة العمل السياسي. ما عاد سلفيّو الثورة كتلة واحدة، وهم حالياً ينقسمون إلى فئتين: الحركيون ويمثلهم «حزب النور» الوافد من رحم «الدعوة السلفية»؛ والمدخليون (سلفيّو أولي الأمر) الذين يرفضون معارضة السلطة والخروج عليها.
في دراسة بعنوان «السلفيون في مصر المنطلقات الفكرية والتطور التاريخي»، عمل الباحث علي عبد الله على تعقب نشوء الدعوة السلفية في الإسكندرية وتحديد موقفها من الإخوان المسلمين، علماً بأن دعاتها لم يكونوا بعيدين عن الإخوانية، لكنهم دخلوا لاحقاً في حالة من الصدام معها لسببين: النشاط السياسي، وأولوية تطبيق الشريعة الإسلامية. تعددت طروحات السلفيين من الثورة المصرية. أبقى جزء منهم على مقاربته التقليدية ورفضوا الحراك الثوري، وهم أقلية، وآخرون لم يحرّموا التظاهرات وشاركوا فيها وأصبح لهم حيز في الساحات والميادين.
أربكت الثورة المصرية السلفيين، وأدت إلى بروز تيارات جديدة أوجبتها التحولات المباغتة، فظهرت «السلفية الثورية» التي يتزعمها الداعية حازم صلاح أبو إسماعيل. الطيف السلفي الجديد درسه مصطفى زهران، محاولاً قراءة خطابه الثوري الذي يختلف تماماً عن أخرياته. هذه الحركة أدت إلى نشوء جناحين: «حازمون» ككتلة سلفية تستدعي الثورية انطلاقاً من تطبيق الشريعة الإسلامية، و«حازمات» وهي فرع نسائي يناصر أبو إسماعيل، ساعياً إلى فرض اتجاه أنثوي ثوري بثياب أصولية إسلامية. يستخدم الكاتب مفهوم «النِّسوية» في وصفه لنساء أبو إسماعيل، إلا أنّ هذه الاستعارة غير دقيقة لأنها تختلف جذرياً عن هموم النسويات العربيات والمسلمات المنخرطات منذ عقود في معركة تحرير المرأة من القيود المجتمعية والثقافية والدينية.
يشتغل سمير العركي أحد المشاركين في الكتاب على إشكاليات الخطاب السلفي بعد الثورة، محاولاً استجلاء كيفية انتقاله من البعد الأيديولوجي إلى الفضاء البراغماتي. يضع الباحث «السلفيين البراغماتيين» أمام مطبات شائكة، ويتساءل كيف يمكنهم ممارسة العمل السياسي مع سيطرة العدّة الايديولوجية، وهل هم قادرون على محاكاة الواقع في ظل غياب حراك اجتهادي وتجديدي يرتبط بالحريات وحقوق المرأة والأقباط والموقف من الليبراليين والعلمانيين.
وفي ظل تزايد القحط الذي يعانيه الفكر السياسي السلفي، قدّم أحمد بان ورقة سعى من خلالها إلى تبيان مأزق السلفيين في هذا المجال، محدّداً مكامن الخلل في خطابهم السياسي، لكنه لم يستطع التقاط الثُّغَر التي يعانيها سلفيّو الثورة، وسقط في القراءة السريعة والعرض الإنشائي، رغم أنّه نجح أحياناً في تقديم مقاربة نقدية لمواقفهم تجاه الشورى والديموقراطية وحركة الاجتهاد.
درس صلاح الدين حسن نقاط الالتقاء والتشابك بين السلفيين والإخوان المسلمين، متتبعاً عملية التقاطع في الأمور الفكرية والحركية. وقبل أن يفصل الحديث في محاور الاتفاق والاختلاف، يضيء على نقطتين: النهج السلفي كما فهمه حسن البنّا الذي لم يكن سلفياً صارماً بسبب نشأته الصوفية؛ ورؤية السلفيين لمؤسس حركة الإخوان. الحركتان تتفقان على مفصل محوري، هو السعي المحموم لأسلمة المجتمع المصري، وتنفصلان في قضايا الديموقراطية وطبيعة الحكم وتطبيق الشريعة الإسلامية وحق المرأة في المشاركة السياسية وقضية البيعة. الصراع التاريخي بين الإخوان والسلفيين ـ كما يلاحظ الكاتب ـ طفا على السطح بعد انتهاء العملية الانتخابية في مصر. ومن أبرز تجليات هذا الاحتكاك التناقض في الطرح السياسي، ما دفع بعض دعاة السلفيين إلى انتقاد نهج «حزب الحرية والعدالة» وأدائه، وخصوصاً ما يتعلق بقضية الشريعة والنص عليها صراحة في الدستور الجديد وماهية الدولة المدنية. لا ينظر عموم السلفيين المتشددين إلى جماعة الإخوان على أنهم جماعة من المبتدعة فحسب، بل يصنفونهم على أنهم من الفرق الضالة ويأخذون عليهم عدم التقيد بالضوابط الشرعية.
في الدراسة الأخيرة من الكتاب، يعالج ماهر فرغلي أحوال ومآلات التيارات السلفية بعد الثورة متسائلاً: هل يؤدي انخراط الجناح البراغماتي إثر تجربتهم القصيرة في الحياة البرلمانية إلى خلق سلفية دينامية مرنة؟ يبدي الكاتب الكثير من الحذر بسبب التداخل الشديد بين الديني والسياسي عند السلفيين الجدد، ولا يراهن على تحولات مرتقبة نتيجة احتفاظهم بأدبياتهم القديمة، وعدم التأسيس لمقاربات قادرة على مواكبة حركية الواقع ومتطلباته. حتى الآن، هم لم يُقدِموا على أي خطوة نوعية ويتمسكون بثوابتهم العقائدية ولم يدخلوا في أي تحول مفاجئ سوى الانخراط في العمل السياسي.
«واقع ومستقبل الحركات السلفية في مصر» يتقاطع مع مخاوف الأكثرية المصرية من الطفرة غير المسبوقة للسلفيين. الكتاب عمل على ملاحقة نشوء التيارات السلفية وتحولاتها وخطابها ورؤيتها للدولة والمجتمع وقضايا أخرى طرحها المشهد المصري ما بعد الثوري، لكن الباحثين أبدوا حذراً شديداً في مقارباتهم وخلاصاتهم، فلم نجد قراءات نقدية/ تفكيكية قادرة على مقارعة الإيديولوجيا السلفية باعتبارها حركة نصوصية دينية غير مؤهلة لمجاراة الواقع إلّا من خلال مرآة زمن السلف.