عندما قال الفيلسوف الألماني هيغل إنّ «بومة منيرفا لا تطير إلا عند الغسق»، قصد بذلك «الحكمة» التي تختار التوقيت المناسب للطيران. ومنيرفا هي إحدى آلهات السلت القديمة التي ترمز إلى الحكمة، وتقابلها أثينا ربة الحكمة الإغريقية التي يقال إنّها وِلدت من رأس زوس كبير آلهة الأولمب، وتحمل أيضاً رمز البومة. هذا الطائر الليلي الغامض اختارته الروائية السورية غادة السمان (1942) ليرافقها خلال رحلتها المثيرة في عتمة التابوات الشرقية. هذا الولاء لرمزها البوم تجسّد في الواقع، حيث لم نرها على شاشة التلفزيون، ولم نسمعها تحاضر في مؤتمر أدبي، أو تجامل وتتملق لخاطر جائزة ما. تخفّيها عن صخب المهرجانات والإعلام لم يحل دون أن تكون موجودة دائماً. إلى جانب حضورها في مواقع التواصل الاجتماعي التي تضمّ مجموعات عدّة لها، وتتداول وتنشر باستمرار أقوالها وصورها ومؤلّفاتها، تشكّل السمان وأدبها مادّة مهمّة في أطروحات الدكتوراه والدراسات العليا، والمقالات النقدية. وبين وقت وآخر، لا بد من أن يصدر عن تجربتها كتاب يستعيد أعمالها ويقرأها بلغة جديدة. «غادة السمان ومسيرتها الثقافية والإبداعية ــ دراسات» (الدار العربية للعلوم ناشرون) للباحث والمترجم السوري عبد اللطيف الأرناؤوط، ما هو إلا واحدة من هذه الدراسات التي تحمل قراءة من شأنها ترسيخ ريادة غادة السمان كأحد أهم الأصوات النسائية الأدبية في العالم العربي.
يشكّل كتاب أرناؤوط دعوة إلى قراءة غادة السمان مجدداً. لم تتبنّ الأخيرة عداوة الرجل كشعار لأدبها، وما هو معروف أنها حذّرت الحركة النسوية العربية وبعض رموزها من إدانة الرجل ومواجهته على أنه عدو المرأة والمسؤول عن تخلّفها، وخصوصاً عندما قالت إنّ «مأساة المرأة العربية هي بعض من مأساة وطننا العربي مع التخلف، وإن خصم المرأة والرجل معاً هو ذلك التخلف الجاثم على الصدر». المرأة أحوج إلى توعية الرجل وكسبه، ويجب توجيه حركة التحرر خارج منطقة الاستفزاز والتحدي بين الجنسين. وضمن هذا الاقتناع جاء رفضها الاعتراف بأدب نسوي له خصائصه، لينتمي أدبها إلى حريتها قبل كل شيء، لا إلى جنس ذكوري أو أنثوي.
هذه الأفكار التي طرحتها، منعت صاحبة «بيروت 75» من الوقوع في مطب الشعارات المستوردة التي نالت من معظم معاصراتها وممن جئن بعدها. هي سبقت زمنها بكثير عندما أطلقت صيحتها الشهيرة من خلال مقال عنونته بـ«جريمة أن تعشق الجارية أصفادها». عبارة لم تسقط شرعيتها والعواصم العربية تضج بنساء لا يغفرن مجرد مرور عابر في الشارع لامرأة لا ترتدي الحجاب. هكذا، يبدو كتاب عبد اللطيف الأرناؤوط راهناً أكثر من أي وقت مضى، يتوقف عند أهم المحطات التي طبعت مسيرة السمان الأدبية والروائية مثل «بيروت 75»، والقضايا التي تناولتها أعمالها، وتجربتها الصحافية، والخلفيات الثقافية والاجتماعية والإنسانية التي كوّنت شخصيّتها ويدرس أدبها ونظرتها إلى أدبها والأدب بشكل عام. غادة التي أشهرت حريتها في وجه الستينيات، لم يخطر لها ربما أنّ فسحة الحرية التي حظيت بها المرأة حينها ستضيق وتتقلص أضعافاً مضاعفة، وها هي المرأة العربية الآن حمائم مقصوصة الأجنحة تنحب فوق رخام
القبور.