بتقديمه لباكورتها الشعرية الأولى «ليل البتول» (الهيئة العامة السورية للكتاب)، يشجعنا نزيه أبو عفش أكثر على قراءة ناهدة عقل. يضع الشاعر المخضرم والمتفرد النبرة يده على عدد من المقاطع والسطور المتوهجة، ويدعونا إلى العثور على المزيد منها داخل المجموعة التي تهديها الشاعرة السورية الشابة إلى أبو عفش وجوزف حرب. إهداءٌ لا يخلو من طموح في الانتماء إلى لغة أمتن مما هو رائج حالياً، ونبرة أقدم مما يُكتب أيضاً. توصيفٌ قد يكون في مصلحة المجموعة، وقد يكون دعوةً إلى أن يُخترق بمذاقات شخصية أكثر بدل الاكتفاء بما هو «آمنٌ» ومُربح مسبقاً. لا تؤمّن اللغة المتينة والنبرة الآمنة وحدهما جواز سفر شعرياً طبعاً، ولكنها ملاحظةٌ صالحة لامتداح أجزاء من المجموعة، والإشارة إلى أنّ هذا المديح لا يصرف النظر عن وجود التوهجات الشعرية إلى جوار سطور ومقاطع أقل توهجاً، وأخرى عادية أيضاً. هي مجموعة أولى تتفوق على ما نتوقعه عادة من المجموعات الأولى، لكن ذلك لا يُعفي الشعر الموجود فيها من التأرجح بين الجودة العالية وما تجلبه معها من وسطيات وعاديات الكتابة أحياناً، مع التنويه بأنّ اللغة لا تخسر متانتها وقوتها في الحالتين، وأن بعض الاستعارات المدهشة تشفع لما يجاورها من سطور أقل إدهاشاً.
هكذا، تلمع صورٌ مثل: «لن أطلبَ/ وآملُ، مهما اشتدّ بيَ الضعفُ/ ألا أُستجاب»، و«ستذكرني حتماً في الشتاء/ أيادٍ كثيرة يُرجِّفها البرد»، و«حين أكتبُ لي، أخاطبُ غيري/ ذاك أني الآن/ أخاطبُني في الماضي»، و«حين أكتبُ باليد اليسرى/ يُغنيني هذا عن قول: قلبي يُؤلمني». صورٌ مثل هذه تبدو أقوى حين تكون القصيدة هي الصورة وحدها، وتفقد بعضاً من قوتها حين تأتي مسبوقة بسطور عادية، أو متبوعة بسطور مماثلة. أحياناً تكون القصيدة كلها مصنوعة بدفقة واحدة كما هي الحال في «أعراض الحياة»: «دوماً/ إذْ يفرح قلبي/ أبكي/ وإذْ أحزنُ/ أبكي/ وإذْ يصطادني دمعٌ مرٌّ/ أخنقهُ في جوفي/ لذا لا أخشى عليّ/ إلا حين لا أبكي». الدفقة تنقذ المعنى الذي يلوح في خاتمة القصيدة، ولكن هذا لا يحدث بالسوية ذاتها في قصائد تتباطأ في الوصول إلى خواتيمها. في قصيدة «قصة حب» نقرأ ذلك: «كان إذْ يأتي بعد غيابٍ طويل/ يغمرني لدقائق ثم يمضي/ هو لا يتركني .. يُؤخذ مني/ يرضى .. أرضى/ يذهب .. أبقى وحدي/ محضُ غيابٍ كان ما بيننا/ لكننا كنا نحبّ/ كنا نحب .. فصيَّرنا الحبُّ رعاةَ غياب/ إذْ تشرق شمس الصبح نظل نلاحق ظل الغياب/ وإذْ ترحل .. لا نفعل إلا أن نبكي عبث تعب النهار:/ وهمَ محو الغياب/ كنا نحبُ/ لكنه الحب/ لكنها الحياة/ ألمُ غيابٍ/ ثم غيابْ». لا تتغير اللغة هنا، ولكن حساسيتها تخبو. لا نستغرب ذلك في تجربة أولى يُؤمل منها أن تتطور وتتصفى أكثر.
صحيحٌ أن الشاعرة تدسّ استعارات منعشة كلما خفتت حماستنا، ولكن يبدو أن قدر البواكير أن تحتوي على نصوص جيدة، وأخرى كان ينبغي معاملتها بقسوة أكبر قبل النشر. رغم ذلك، نقرأ صوراً مثل «تدفئني شمسٌ للجميع/ ويجمّدني شتائي وحدي»، و«لا تتركني هكذا/ أترددُ على باب فمك»، و«كم أنتَ كثيرٌ/ على ورقة خريفٍ مثلي»، ونقول: هذا يكفي للترحيب بشاعرة تريد أن تلتحق بالشعر الحقيقي.