في مقالة «ثلاثة عقود مليئة بالتحولات» للعزيز بشير صفير (الأخبار 8/5/ 2013) استوقفتني بضع نقاط، سأقوم في ما يلي باقتباسها ومحاولة فهم القصد من ورائها:
1. «وأخيراً حصلت كاميليا جبران على تأشيرة دخول إلى بيروت....للاحتلال الإسرائيلي ظواهر عبثية ومجرمة».
هذا كلام سليم بالطبع، فعبثية وإجرام الاحتلال الإسرائيلي أمر لا خلاف عليه، لكن، حساسية السلطات اللبنانية بالذات تجاه كل إنسان من أصل فلسطيني، بغض النظر عن جواز سفره، هي أيضاً أمر لا ينتطح فيه عنزان. كاميليا جبران الفلسطينية هي مواطنة فرنسية كاملة الحقوق والواجبات، ورسمياً هي بعيدةٌ كل البعد عن «الاحتلال الإسرائيلي وظواهره العبثية والمجرمة». ومع هذا، فتأشيرة دخولها إلى لبنان لا تزال «حدثاً» يثير احتفاءنا جميعاً، ومن ضمننا الكاتب الذي يقول «من جهتنا نفرح بالحدث لأجلها ولأجل محبيها من الجمهور اللبناني والفلسطيني اللاجئ قسراً. فهُم «أهل الشاطئ الآخر... بشرٌ يتعذر الوصول إليهم مع أنهم قريبون مرئيون». ألا ليتَ شعري، من هم «أهل الشاطئ الآخر» في هذه الحالة؟ هل حاولتَ دخول لبنان كفلسطيني يا بشير؟ كفلسطيني بجواز أردني؟ بجواز سوري؟ كفلسطيني بجواز أوروبي؟ بجواز فلسطيني؟ كفلسطيني بجواز ديبلوماسي فلسطيني؟ هل ذقتَ تجربة محاولة إقناع السلطات اللبنانية بأن غرض زيارتك كفلسطيني، كمصري، أو كيَمَنيّ هو ليس التجسّس ولا التسوُل أو امتهان الدعارة؟ هل تعرف «التخشيبة» الخاصة بالـ«مشبوهين» في مطار بيروت؟ أين تنتهي «عبثية الاحتلال الإسرائيلي وظواهره المجرمة» وأين تبتدئ عبثيتنا نحن؟ سألتكَ بالله ثانيةً: من هم «أهل الشاطئ الآخر»؟ ومن هم «سجناء مرآتهم الخاصّة» يا عزيزي؟ من؟
2. «ما قدّمته كاميليا خلال العقد الأخير طرح علامات استفهام فنية كثيرة. البعض ذهب إلى حدّ القول إن هذا التحوُّل لا يخلو من (أو ربما سببه) تغيُّرات أصابت مفهوم النضال لدى الفنانة، بالاتجاه السلبي طبعاً. فوجهة النظر التي تقول إن الشعب الفلسطيني، في نضاله اليومي، لم تعد تمسّه أغاني جبران الحديثة النَفَسْ، فيها شيءٌ من الصحة». فعلاً؟ وتغيرات «مفهوم النضال» لدى محمود درويش منذ قصيدة «سجل أنا عربي» إلى قصيدة «درس في الكاماسوترا»، هي «تغيّرات بالاتجاه السلبي طبعاً، لكونها لا تمس الشعب الفلسطيني في نضاله اليومي»؟ أوليس هنالك من «نضال يومي» للشعب الفلسطيني سوى الاستشهاد على الحواجز العسكرية؟ أوليس هنالك من «نضال يومي» لأي شعب آخر من شعوب المنطقة، عدا عن الفلسطيني، حتى هذا اليوم؟ وهل هذه النضالات اليومية بمجملها، لا ولن تمسها أغانٍ حديثة النفس؟ أيُّ أغانٍ ستمسها إذن؟ من قال إن الشعب في نضاله اليومي بعيد عن الحداثة؟ وما هي الحداثة المشروعة إذن، أهي موسيقى لوتوسلافسكي وبيندريتسكي فقط؟ وهل كان هؤلاء بعيدين عن نضالات شعوبهم؟ حقاً؟
3. «الأداء واللحن والموسيقى الإلكترونية التي تلامس التجريب أحياناً، لا تمتّ إلى الثقافة الشعبية عموماً، فكيف إذا كانت هناك حاجة نضالية (لا ترفيهية) إلى الفن». هكذا إذن، فالحاجة النضالية تحتّم الارتباط الأبدي بالثقافة الشعبية؟ وبناءً عليه، فبتهوفن في سمفونيته الثالثة (التي مثل سائر أعماله لا تمتّ إلى الثقافة الشعبية بصلة)، كان ترفيهياً ولم يناضل في وجه غزو نابليون للنمسا؟ وموسيقى باخ التي لم تنتج عن حالة نضالية، هل نتجت عن حاجة ترفيهية إذن؟
دع بتهوفن جانباً، هل أفهم من ذلك أننا كفلسطينيين ممنوعون من مغادرة الثقافة الشعبية قبل حلّ القضية الفلسطينية؟ يعني بدون «على دلعونا» ما بيمشي حالنا يا أخي؟
4. «والكلمة، وإن بقيت عربية، فقد ابتعدت نسبياً عن المعاناة واقتربت إلى السوداوية. والسوداوية هي أقل ما نحن بحاجة إليه في صراعنا». أنا لا أعلم منذ متى تحولت السوداوية إلى خصلة ذميمة، لا يهم، لكن «أقل ما نحن بحاجة إليه في صراعنا»؟ من هم هؤلاء الـ «نحنُ» يا عزيزي بشير؟ وعلى من تعود الـ«نا» في كلمة: صراعنا؟ هل فلسطين ممنوعة من الاستمتاع اللبناني بـ «يوم الجاز العالمي» بسبب «صراعنا»؟ وماذا عن العراقيين مثلاً؟ هل سنتحفظ على ميولهم السوداوية، بسبب «صراعنا»؟ وإن كنتَ تقصد بـ «صراعنا» أنك جزء منه، وهذا يشرفني بالطبع، لكن هل هذا يعني انك ستتخلى عن حبك لموسيقى شوبان وموتسارت، وستلتزم مثلنا بالموسيقى المقاومة التي لا تتعدى الثقافة الشعبية، والأغاني التي لا «تقترب إلى السوداوية»؟ أم أن هذا سيكون واجب الفنان الفلسطيني وحده في «صراعنا»؟
5. «لم يكن صوت كاميليا خارقاً، لكنه كان مناسباً لما يُراد من الفن الملتزم». طيب، شهادتي هنا مجروحة بطبيعة الحال فـ «صوت كاميليا جبران» هو صوت شقيقتي، ولن أتطرق إلى إثبات جمالياته، لكن «كان مناسباً لما يراد من الفن الملتزم»؟ وماذا يراد بالضبط من الفن الملتزم؟ توظيف أصوات تناسب الدبكات الشعبية الفلسطينية؟ أم هتافات التظاهرات الليلية في حمص؟ لا أعتقد أنك تقصد فعلاً حصر الفنان الفلسطيني، أو غيره، في دائرة «الفن الملتزم» الذي يكتفي بأصوات «غير خارقة»، ولمن نترك الأصوات الخارقة يا بشير؟ للأوبريتات المستوردة إلى «مهرجانات بيت الدين»؟
6. «لا أحد يعرف إلى ما ستؤول إليه هذه الأعمال في المستقبل..... وربما، لا مكان لها في المنظومة الثقافية والنضالية المطالِبة بإزالة دولة إسرائيل عن الخارطة». أما عن هذا البند الأخير، فوالله لا أقول شيئاً، ولتصمت جميع أصوات فلسطين في انتظار الخرائط الجديدة.
6 تعليق
التعليقات
-
مقال مبدع يا خالد، بفشّ خلقمقال مبدع يا خالد، بفشّ خلق كل الفنانين العرب يلي نضالهم اصبح ان يُرى فنهم كفناً أولاً وقبل كل شيء، وليس كنشرة أخبار او مظاهرة. والفن لا يقتصر بالخرايط ولا بالزمن... سلام لكاميليا، يا اروع الفنانين...
-
العزيز خالد، عندما فتحتالعزيز خالد، عندما فتحت الجريدة وطالعني اسمك راداً عليّ، خفت من أن تتغيَّر صورةٌ عنك انطبعت في ذهني خلال حفلتك الممتعة في بيروت (لا أقصد بـ"ممتعة" أي مجاملة.. فتلك لعبة التي لا أتقنها). أولاً: هذا لم يحدث. على العكس، تعززت هذه صورة. صورة إنسان صاحب أخلاق وقلب كبير. هذا أهم ما في المسألة. ثانياً: لدي ردّ واضح، على معظم النقاط. لكنني لن أفعل، فبذلك يكون لنا حجة للقاء نناقش فيه المسألة عند زيارتكم المقبلة إلى بيروت. ثالثاً: بعض النقاط الأخرى اقتنعت بها، فأشكرك على ذلك. رابعاً: مشكورٌ السيد نزيه سلامه على تعليقه، وأنا أيضاً أدعوك لقراءة (وأدعوه لإعادة قراءة) ما كتبتنا عن الثلاثي جبران (وهو عبارة عن نقيض ما أوحى به السيد سلامه!). مع العلم أن ما كتبته لا يمثّل مع الأسف رأيي الكامل والمفصَّل بهم. لا يحق لي قول ما يلي، لكنني سأقوله: رأيي الكامل موجود فقط في النسخة الأصلية للمقالتين اللتين كتبتهما عنهم (خاصة المقالة الثانية التي تناولت زيارتهم إلى بيروت)، أي قبل تعديلها من قبل المحرِّر لضرورات لم أفهمها، وكادت تسبب لي خلافاً مع الجريدة. لكن، دعنا من النسخ الأصلية، فتلك المنشورة كافية لدحض افتراءات السيد سلامه، وبالأخص إذا ما التقط القارئ المعاني بين السطور وحللها مستنداً إلى تفكيك الراحل إداور سعيد لما يُعرَف بـ"الاستشراق"... أما الأصل فمحفوظ في الأرشيف (مع إثبات دامغ على مصداقية الرواية: تاريخ آخر تعديل للـword document). أخيراً، أقدّر أيضاً رقي السيدة دينا أبي صعب في ردّها على الموضوع ذاته. شكراً بشير صفير
-
في جميع النقاط التي طرحت،في جميع النقاط التي طرحت، هناك دفاع عن تهمة لم ترد لا من قريب ولا من بعيد في بال كل من قرأ مقال السيد بشير، ولكن هذا الرد فتح مجال للقارئ أن يعتبر أن هذه التهم مشروعة!!! (من بباب يلي فيه شوكة بتنغزو) !! رد غير موفق...
-
كلّنا نحبّ أشقائناغريبٌ هذا القدر من العدائية في الرد. لماذا اعتبرت ياسيّد جبران أن الفرح بالدخول الى لبنان تهمة عليك الردّ عليها وتبريرها؟ أستاذ صفير ليس كتائبياً ولا في تنظيم حراس الأرز ولا حتى من أحرار دوري شمعون. لماذا التلميح الى عذابات الفلسطينيين في لبنان وكأنّ الكاتب يتحمّل مسؤوليتها؟ المفروض أن من يتابع هذه الصحيفة يعلم توجهات من يكتب فيها. بالنسبة لـ "تغيرات مفهوم النضال"، هل تعتقد أنك إذا ذكرتَ محمود درويش قياساً في معرض الحديث عن كاميليا، ستنتفي هذه الصفة عنها؟ أكيد أنّ تغيرات مفهوم النضال أصابت محمود درويش، كما أصابت مرسيل خليفة وغيرهما مِن مَن وجدوا في اوروبا مقصداً لترويج بضاعتهم الاستشراقية، بعد أن أصبحت هذه البضاعة هنا غير ربيحّة. فأصبح النضال ذات معنى إنساني عام، على طريقة "لمّح بلا ما توضّح". وفي الختام كلنا نحب أشقائنا يا سيّد جبران، لكن علينا أن نحافظ على المسافة النقدية، لئلّا نعتقد أنّ أعمال كاميليا جبران توازي مؤلفات بيتهوفن وباخ. أليس كذلك؟
-
يا ريت يا خالد تقرا شو بيكتبيا ريت يا خالد تقرا شو بيكتب بشير صفير عن الثلاثي جبران وكيف بيتغزل بعبقريتهم الموسيقية... كان أكيد ما رديت عليه على اللي حكاه عن كاميليا. يعني اعتقد انه كان ممكن تأخذ موقف انه قلة الرد .. رد!