دمشق | قبل الوصول إلى دمشق، عليك أن تخفي بطاقتك الصحافية وتخبّئ كاميرتك. وأنت على مقربة من عشرات الحواجز التي تغيّر شكل أقدم عاصمة في التاريخ وتحوّلها إلى ما يشبه الثكنة العسكرية، يُستحسن ألا تغامر في إجراء أي اتصال عبر هاتفك الخلوي، خصوصاً إذا كان يحوي كاميرا. المدينة سجن مفتوح بالنسبة إلى سكانها، لا سيما الإعلاميين الذين لو حالفهم القدر ونجوا من زنازنين السلطة، فقد تلاحقهم سواطير الجماعات التكفيرية، أو يطالهم قصاص «الجيش الحر»! هكذا، تبدو دمشق اليوم موشّحةً بأسود الحداد على ماضيها وحاضرها ومستقبلها. ولعلّه ضرب من العبث التحدّث عن «يوم حرية الصحافة العالمي» وسط هذا البحر من الدماء والقمع والاضطهاد والموت اليومي. الأمر لم يعد مقتصراً على السلطات السورية، فالأخيرة يزاحمها منافسون كثر على الممارسات القمعية والإلغائية العنيفة التي تتخذ بحق الإعلاميين، إلى درجة أنّها تصل في بعض الأماكن إلى إقامة «الحد» بالتقطيع على يد جبهة «النصرة»، أو الاعتقال وإجراء تحقيقات خاصة بـ«استخبارات» كتائب «الجيش الحر».
والنتيجة عام أسود جديد يرخي بظلاله على قوائم وتصنيفات المنظمات الحقوقية والإنسانية مع المراتب المتأخرة التي تحتلها سوريا بسبب الحرب الطاحنة التي تدور في ربوعها.
وآخر تلك التصنيفات ما صدر ضمن تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» لعام 2013. رأى التقرير السنوي أنّ سوريا من أكثر الدول قمعاً لحرية الإعلاميين، ولم يسبقها إلى ذلك في كل العالم سوى ما يعرف بالثلاثي الجهنمي (تركمانستان وكوريا الشمالية وإريتريا).
كيف لا والمنظمة ذاتها أصدرت سابقاً معلومات تؤكد أنّ حوالى 56 صحافياً وناشطاً إعلامياً قتلوا منذ بداية «الثورة» في
سوريا.
وفي تقرير آخر، كشفت «مراسلون بلا حدود» أنّ العنف تجاه الصحافيين ارتفع في سنة 2012 بنسبة 33%. وأرجعت المنظمة سبب هذا الارتفاع إلى الحرب الدائرة في سوريا أولاً.
سلسلة طويلة من الانتهاكات الحاصلة من طرفي النزاع، ربما كان أبرزها اختطاف مذيع الأخبار محمد السعيد وتصفيته وتبنّي العملية من قبل جبهة «النصرة»، لتتوالى الجرائم واحدة تلو الأخرى وتطال علي عباس رئيس قسم الأخبار الداخلية في وكالة «سانا»، ثم مصعب العودة الله الصحافي في جريدة «تشرين» الرسمية التي صمتت عن اغتياله من قبل قوات الأمن السوري (راجع المقال أدناه) في حين زفّ الصحافي ناجي أسعد من الجريدة ذاتها كشهيد للوطن عندما لقي مصرعه في حي التضامن في دمشق.
كذلك، لاحقت عمليات الخطف الكثير من الإعلاميين العاملين في مؤسسات الدولة الإعلامية التي لم تسلم من الاستهداف المباشر، إذ سبق أن انفجرت عبوة ناسفة في مبنى الإذاعة والتلفزيون السوري، قبل أن تسقط عليه قذائف هاون شبيهة بتلك التي حصدت أخيراً أرواح أربعة موظفين في الوكالة السورية للأنباء «سانا»، وسط محاولة تعتيم بلهاء من قبل المدير العام للوكالة.
وعلى الطرف المقابل، ما زالت مصائر عدد كبير من الإعلاميين غير معروفة بعد اعتقالهم من قبل قوات النظام، وأهمهم رئيس «المركز السوري للإعلام وحرية التعبير» مازن درويش ورفاقه الذين قضوا أكثر من عام في أقبية الاستبداد.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الصحافية شذى المداد ومهند عمر اللذين يعتقلهما النظام منذ وقت طويل.
وقد مثلت المداد أمام محكمة الإرهاب، وقرر القاضي الإبقاء على إيقافها، في حين أطلق «الجيش الحر» سراح الصحافية الأوكرانية أنهار كوتشنيفا بعدما احتجزها لمدة 153 يوماً.
وحال الصحافية الاوكرانية كانت أفضل بكثير من عدد من الصحافيين الاجانب الذين سقطوا على أرض سوريا، فيما كان مفاجئاً أن يتم إيقاف مراسلة تلفزيون «الميادين» ديما ناصيف عن العمل ضمن دمشق لمدة شهرين على خلفية التغطية المباشرة لمراسم تنصيب يوحنا العاشر اليازجي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس في منطقة باب توما، ثم أُلصق القرار بالمجلس الوطني للإعلام الذي شكّل واجهة لم يسمع لها صوت منذ
إنشائه.
ومن المؤكد أنّه ضمن حالة الحرب، لم يكن هناك أي ولادات لجهات إعلامية جديدة إلا الرسمية منها، كقناة «تلاقي» التي باشرت البث التجريبي في انتظار إطلاق قناة «عروبة».
يبدو المشهد السوري محاطاً باليأس والإحباط والموت المحتم. وسط كل هذه الدماء، صار الحديث عن حرية الصحافة ضرباً من الترف!