لا تنتظروا بيار صادق على شاشة «المستقبل» الليلة، هو لن يأتي. لا تفتحوا الصفحة الأخيرة من صحيفة «النهار» اليوم، فقد نسي أن يسلّم كاريكاتور الوداع. غادر مسرعاً قبل أن يسبقه قطار «المحطة» الرحبانية. وضع الريشة والقلم جانباً، ومضى يبحث عن ريشة جديدة في مكان آخر عن عمر ناهز 76 عاماً. لم يتمكن حتى من قول كلمته الأخيرة.
ترك منزله في برمانا وأدخل إلى «مستشفى القديس جاورجيوس» في حالة صحيّة حرجة، ولم يتأخر حتى فارق الحياة. لكن حين كرّم قبل أربعة أشهر تقريباً، بدا كأنه يوصينا بهذا البلد الذي ضاع بين أقدام الساسة وأطماعهم. قالها كمن يضع بين أيدينا أمانته، يوم كرمه رئيس الجمهورية اللبنانيّة ميشال سليمان ومنحه «وسام الأرز من رتبة كوموندور» في كانون الأول (يناير) الماضي في مناسبة مرور 50 عاماً على عطائه. يومها، أهدى التكريم «إلى وطن اسمه لبنان، لأننا إلى الآن لم نكرم لبنان وما زلنا ندوسه، ونتمنى أن نقول كلّنا للوطن وليس كلنا على الوطن».
ورث الرسام الراحل موهبته عن والده الذي كان كاتباً ونحاتاً ورساماً. لمست عائلته فيه حبّ الرسم منذ الطفولة، فشق طريقه في عالم الفن في المراهقة، واختار طريقه في الشباب، حين التحق بالاكاديمية اللبنانيّة للفنون الجميلة وتخرج منها متيّماً بالرسم الناقد، فأراد أن يغيره بيده وريشته حيناً، وبقلبه وعشقه لهذا الوطن أحياناً. لم تقبل العائلة قراره، لأنّها كجميع العائلات اللبنانيّة تحلم بأن يتسجل ابنها في الاختصاصات التقليدية كالطب والهندسة والمحاماة. هنا كان أول تمرّد في حياته، سيليه تمرد على الأوضاع السياسيّة وانتقاد للسياسيين بالكلمة والرسم. ينقل صادق في حوار تلفزيوني صدمة جدته حين عثرت عليه يرسم امرأة عارية. يومذاك، لفت والده انتباهه إلى أنّ عليه أن يحترف فن الكاريكاتور. قبل الاحتراف، بدأ بالرسم لمصلحة بعض المجلات منها «الخواطر»، و«الدبور»، وكان هدفه تأمين مصاريف الجامعة فقط.
تنقل صادق بريشته بين «دار الصياد» ومجموعة من المطبوعات اليوميّة أولها «النهار»، و«العمل»، و«الجمهورية». هكذا، كانت البداية في معقل آل فريحة لفترة وجيزة، قبل أن ينطلق في مشروع صديقه ناشر صحيفة «النهار» يومذاك الراحل غسان تويني، ويستمر فيها ما يقارب 40 عاماً، قبل أن يغادرها عام 1978، ويعود إليها عام 1992. بين المغادرة والعودة، عمل لمصلحة صحيفة «العمل» التي غادرها أواخر الثمانينيات والتحق بصحيفة «الجمهورية». كان من أوائل من نقل الرسم الساخر إلى الشاشة الصغيرة في عام 1986، فقدم التعليق الكاريكاتوري عبر LBC مع شخصيته المحببة «توما» التي عكست مزاج المواطن اللبناني البسيط، إلى أن ترك المحطة عام 2002 بضغط من النظام السوري كما صرّح. هكذا، قرّر أن يختم مشواره المهني مع تلفزيون «المستقبل» الذي دعاه إلى الانضمام إلى فريقه فور مغادرته «المؤسسة اللبنانيّة للإرسال». واصل بالرسم حتى اليوم الأخير من حياته. كان أول مَن قدم الكاريكاتور التلفزيوني المتحرّك الذي ظل جامداً على الشاشة سنوات طويلة.
على مدى خمسين عاماً، أرّخ الفنان الراحل للساحة السياسية والاجتماعية اللبنانية، ومرّ كل السياسيين تحت ريشته. سخر من هذا، واستفزّ ذاك، مشكلاً لسان حال المواطن البسيط وذاكرة جيل كامل تربى على رسوماته التي كانت بسيطة بتقنياتها. وليس سرّاً أن بيار صادق كان مشاغباً ومشاكساً. من هنا، تلقى تهديدات كثيرة بالتخفيف من حدة انتقاداته، وكاد أن يعتقل، لكنه لم يرتدع بل أكمل عمله وفقاً لقناعاته. في أحد حواراته السابقة، قال بأنّ المخابرات العسكرية حلّت ضيفةً سمجة عليه عام 1968. وقد مارست عليه السلطات يومذاك الترغيب والترهيب، فقد أرادت أن يكف عن رسمه الساخر، فعرضت عليه العمل في وزارة الدفاع، لكنه رفض، فتحوّل بعد 48 ساعة إلى التحقيق أمام المحكمة العسكرية.
طوال السنوات الصعبة في لبنان، كان يتجاور عملاقان على الصفحة الأخيرة لأهم جريدتين في لبنان: ناجي العلي في «السفير»، وبيار صادق في «النهار». يفرّقهما الأسلوب والنهج والموقف، وتجمعهما هذه السلطة القائمة على قول الكلمة الفصل في اللحظة السياسية الراهنة. الأول أسكته كاتم صوت في لندن من العام 1987، والثاني أغمض عينيه أمس في لحظة سياسية حاسمة من تاريخ لبنان.