بغداد | المسيحية المفترضة، أو الدافعة ربما للكتابة، هي التهمة التي لاحقت رواية سنان انطون «يا مريم» في مغالطة ليس لها مثيل سوى أنّ الجواهري شاعر شيعي في مقابل أنّ السياب كتب شعره عن سنّة العراق، ولا بأس في أن نتذكر يهودية سمير نقاش وحضورها المؤكد في رواياته. هذه المسيحية الحاضرة في الرواية والمستعملة بقوة كتهمة جاهزة ضد الرواية وكاتبها معاً؛ كونها رواية كتبها مسيحي عن تحولات الطائفة المسيحية في العراق، تستبطن الكثير من تحولات الرواية ونموذجها السردي في العراق بعد 2003. نتحدث عن المسيحية المفترضة كإحدى الصيغ المقترحة للهوية. مسيحية الراوي يوسف، ثم مسيحية الراوية مها، إلى جانب هويات أخرى تقدمها الرواية كاليهودية والمسلمة. هذه الهويات الأولى على الأقل تقدَّم في صيغة لافتة، وتحديداً في سياق اعتراض يوسف على «الأب» في مدرسة بغداد عندما يصفهم بـ«قطيع الذئاب»، فيرد عليه بـ«كلا، يا أبونا، نحن سرب طيور مسالمة». دلالة الهوية المسالمة، المسيحية طبعاً، لكن المنفتحة على غيرها تستثمرها الرواية في قراءة تاريخ العراق بتحولاته الدامية في القرن الفائت وصولاً الى احتلال البلاد مع مقابلتها بطبعة أخرى من المسيحية مختلفة عن مسيحية يوسف.

تتجسّد هذه الطبعة في مها الشابة والطالبة الجامعية. لنتأمل الدلالة المتسرّبة من الاسمين: يوسف ومها. الاول ذو حمولة عبرانية مشبعة بدلالات الترحال والنفي، تحيل الى العراقة والتاريخ البعيد، يقابلها الاسم الثاني ذو الأصل الملتبس والحديث، والفقير دلالياً ولا يحيل الى التباسات تاريخية معروفة في تاريخ البلاد. «يا مريم» لا تدّعي الكثير، ولا تنشغل بتراجيدية المصائر في عراق يحترق رويداً رويداً. إنّها سرد آخر في الرواية العراقية يفيد من ثيمات غير بعيدة مما شغل كتّاب الرواية عندنا في العراق، منها سرد الهويات بخلاف سرديات الواقعية وسواها كالتجريب وسرد المخطوطة، والاشتغال على الحدث المعاصر. سمة مشتركة مع الروايات العراقية الصادرة بعد الاحتلال، شغلتها الكتابة المفارقة لحدث ينجز للتو: الاحتلال، الانهيار المروع للبلاد عقب ديكتاتورية مقيتة، الموت الطائش عبر دلالة القتل المجاني للجميع. «يا مريم» مثلاً تختار يوماً واحداً زمناً لها. إنّه يوم تفجير «كنيسة النجاة» في بغداد ضمن سرد منقول أو مصوغ بلغة منضبطة لا تشغلها الاستعارات الكبرى، ولا اللغة المتفجرة. تبتعد الرواية عن مراكمة تقنيات السرد من دون فائدة تسجّل لصالح السرد ذاته. وهذا امتياز فريد لـ«يا مريم». يدرك سنان أنطون أنّ الكتابة المفارقة لا تحقّقها اللغة المترفعة عن الوقائع، والعوالم المفترضة لواقع مائع زئبقي مثير للدهشة بتحولاته بل انقلاباته. ربما لأجله نجد انطون يعمد الى لغة بالغة البساطة والأهم أنّها منتجة لسرد يثري العوالم المتخيلة في الرواية. لغة تعيد انتاج الوقائع المنفلتة، المتناثرة كما الواقع المتفجر يومياً، متوسلةً سبلاً كثيرة أولها الدلالة الفائقة للعنوان باشاراته العديدة والمتآزرة معاً لانتاج بديل عن واقع يتآكل تدريجاً. واقع مرسوم بلونين فقط: الابيض والأسود. صورة أخرى عن عراق يتلاشى.