من أعزاز إلى جرود عرسال: يتغيّر المراسلون والتغطية واحدة

  • 0
  • ض
  • ض

في الحياة ــ قبل المهنة وبعدها ــ أخلاق. وأوّل الأخلاق احترام الإنسان لكرامة الإنسان. لا تحترم هذه الكرامة عندما يسأل أسير وهو بين أيدي خاطفيه «ماذا تحب أن تقول؟» أو «من تحب أن تشكر؟» تماماً كما لا تحترم كرامة ذويه عندما يسألون أسئلة مشابهة. وعليه، فإن ما يلي ليس دفاعاً عن مراسل «أم. تي. في» حسين خريس، والكثير مما فعله لا يدافع عنه مهنياً، بل هو لفت نظر إلى أنّ نحر مهنة الصحافي بشكل عام والمراسل بشكل خاص، قد تمت منذ سنوات طويلة. وإن كانت بصمات حسين قد وجدت على السكين المستخدم، فلأنّه كان آخر من استعمله. الواقع هو أنّ أيدي كثيرة تعاقبت على هذه الجريمة طوال عقد مضى، وفظائع من حجم استصراح المخطوفين وتلميع صورة الخاطفين تورّط بها عشرات ــ بل مئات ــ العاملين في الإعلام المرئي، من مدراء أخبار ومعدّي نشرات ومراسلين (قد أكون منهم) ومصوّرين وعاملي مونتاج و... مثلاً، ما زال اللبنانيون يذكرون ملفّ «مخطوفي أعزاز» الذي ولد في خضم المعركة الطاحنة بين قناتي «الجديد» و«أل. بي. سي. آي» على المرتبة الأولى. هذا الملف الذي جنّدت كلتا القناتين له إمكانياتها اللوجيستية والبشرية كافة، حوّل يوميات المخطوفين إلى ما يشبه تلفزيون الواقع. ولأنّ تلفزيون الواقع يتطلّب تجميل صورة الحدث، تطوّع مراسلو القناتين ــ وتحديداً منهم من كان الأكثر تردداً إلى أعزاز ــ بالمهمة، فتغيرت صفة «أبو ابراهيم» من خاطف الى مستضيف، واستعملت عبارة "انساني" في وصفه ما لا يقل عن مئة مرة خلال التقارير والتغطيات المباشرة. هذا مع الحرص في كل مرة على ارفاق الوصف بشرح يبرره كإخبار المشاهدين بأنّ عينيه تدمعان كلما استمع الى قصص ضيوفه، وأنّه يحرص على اعطائهم أدويتهم بنفسه وأنه "مهضوم «يحب المزاح».

ما فعله حسين خريس ليس سوى الانتماء الوفي لـ «المدرسة» اللبنانية في التغطية المباشرة
طبعاً، لم يتكل المراسلون يومها على السنتهم فقط للحديث عن أبو ابراهيم، بل أقحموا ميكروفوناتهم في أفواه «ضيوفه» سامحين لهم و«بكل حرية» أن يتشكروه ويشتموا دولتهم وأحزاب دولتهم ويقرأوا بيانات يدعون فيها الى التظاهر وقطع الطرقات. علماً بأنّ «أل. بي. سي. آي» و«الجديد» كانتا قبل كل بيان تخوضان معارك اتصالات طاحنة لاستجداء الخاطفين إعطاء السبق الصحافي لهما. على العموم، فإنّ حادثة «أبو ابراهيم» لم تكن سوى البداية التي دشّنت لحوادث مشابهة سرعان ما تلاحقت. بعدها بفترة وكرد فعل على ما قيل يومها إنّه خطف لمواطن لبناني يدعى بسام المقداد من قبل المعارضة السورية، قام أفراد من عائلته بخطف عشرات المدنيين السوريين، ودعوا وسائل الإعلام ـــــ التي تسابقت بطبيعة الحال لتلبية النداء ـــ إلى استصراح المخطوفين الذين توالت «اعترافاتهم» و«من دون أي ضغط» بأنّهم جميعهم ضباط وقادة في الجيش الحرّ وأنّهم «مجرمون وإرهابيون». علماً أنّه في الفترة نفسها، خُطف مواطن تركي من أجل الضغط على أنقرة للمساعدة في حل ملف مخطوفي أعزاز. لم يكتف المراسلون هذه المرّة باستصراحه، بل استباحوا جواز سفره بعدما سلمهم إيّاه الخاطفون، وراحوا يقلبون صفحاته على الهواء معرفين الناس إلى أدقّ خصوصيات الرجل. في أعقاب ذلك، انتقلت موجة «الاستضافة» إلى الشمال اللبناني، فوقعت العديد من عمليات الخطف والخطف المضاد المحلية على خلفية الأزمة السورية. ومجدداً، لم يراعِ الصحافيون على الأرض، ولا المسؤولون عنهم في مكاتب التحرير كرامة من لا حول لهم ولا قوى، فتسابقت الشاشات على مقابلة «الضيوف» لإعطائهم الفرصة ليقولوا ــ وبعضهم بوجوه مورمة ــ إنّهم ليسوا مخطوفين بل ضيوف معززون مكرمون. ما سبق هو مجرّد أمثلة استحضرتها الذاكرة على عجل، علماً أنّه في أرشيف التلفزيونات اللبنانية مئات الحالات المماثلة التي تؤكد أنّ ما قام به مراسل «أم. تي. في» حسين خريس لم يكن سوى الانتماء الوفي لـ «المدرسة» اللبنانية في التغطية المباشرة، وأنّ من درّسوا أو درّبوا حسين وسواه من دون أن يصغوا يوماً إلى نقد، لا يجب أن يفاجأوا بهذا الحصاد المرّ. أما بعض زملاء الرجل ممن تحوّلوا إلى واعظين له في أصول التغطية الصحافية وآدابها، فربّما عليهم قبل أن يتلوا عليه عظة المهنة أن يسارعوا إلى محو جزء كبير من أرشيف تغطياتهم وأرشيف صورهم مع عناصر مجموعات مسلحة لا تندرج في إطار بعيد عن إطار «جبهة النصرة»، لأنّ فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه أو أن يحاضر فيه. *إعلامي لبناني

  • عبد الحليم حمود ــ لبنان

    عبد الحليم حمود ــ لبنان

0 تعليق

التعليقات