دمشق | أعطني سلالة سورية صافية كي أروي الحكاية لك على نحوٍ آخر؟ المسألة هنا لا تتعلق بتعدد الهويات، بقدر ما هي توصيف لجغرافيا مفتوحة على تواريخ متشابكة. هذه المرّة، سيروي الحكاية شاب كردي أتى من ضفاف دجلة عند الحدود السورية العراقية، ليحط رحاله في غرفة مستأجرة في حي المهاجرين على سفوح دمشق. النسخة الثانية من «المرود والمكحلة» بتوقيع عروة العربي، عن نصّ كتبه عدنان العودة، تضعنا وجهاً لوجه مع اللحظة السورية الراهنة بكل تشظياتها. خشبة «مسرح الحمراء» في دمشق التي تستضيف العرض هذه الأيام، خريطة مصغّرة عن بلاد أضاعت هويتها في الترحال. كنا قد شاهدنا العرض قبل سنوات بمقترح سينوغرافي آخر للمخرج عمر أبو سعدة، من دون أن نلتفت بعناية إلى سؤال الهوية، أو أننا تلقيناه بمزاج مختلف. كان علينا اليوم أن نفحص المشهد بعين أخرى لنلتقط معنى الحكاية وتشعباتها، وخصوصية الموزاييك السوري بطبقاته المتعددة. ثنائيات متجاورة تشكّل في سردها المتناوب خصوصية الفسيفساء السورية، وأقدار بشرها في تيههم الوجودي. اختار عدنان العودة نهر الفرات مكاناً جغرافياً لعبور سفينة شخوصه، وإذا بحكاية تسلم الحكاية الأخرى، في مرويات بدوية في المقام الأول. كأن التاريخ السوري، منذ نهاية الحقبة العثمانية إلى اليوم، لم يُكتب إلا بوصفه حكاية شفاهية يرويها بدوي في رحلة مكابدات تمتد من نهر الفرات إلى حمص، وانتهاءً بدمشق. في المقابل، وجد المخرج عروة العربي في صيغة الحكواتي فضاءه السينوغرافي للملمة هذا المزيج من الإثنيات المتشظية. كراس متقابلة لشخوص ينصتون إلى حكاية أحدهم، كما لو أننا في مقهى شعبي، أو ربما في مجلس عزاء. لكل من هؤلاء حكايته المختلفة، لكنها ستنتهي جميعاً إلى مصبّ واحد. يبدأ الحدث بطفل لقيط، وجََدَه بدوي متجوّل مرمياً تحت شجرة، هو آخر ما بقي من عائلته، إثر مذبحة الأرمن على أيدي الأتراك، في أواخر الحرب العالمية الأولى، فيتبناه ويطلق عليه اسم غريغور. يكبر الطفل في كنف العائلة البدوية ويتطبّع بعاداتها، ويتفوّق على الآخرين بميزة سحرية هي إشفاء العيون مما يعلق بها من شوائب عن طريق لحسها بلسانه، فيتقاطر مرضى العيون على هذا الطبيب الذي ذاع صيته في المنطقة، إلى أن يطلب ضابط فرنسي منه معالجة عين كلبته المصابة، فيرفض، لينتهي أعمى على يد هذا الضابط. قبل ذلك، تعلّق بمريضة شركسية، وهرب معها إلى مكانٍ آخر. ينجبان ابناً وابنة، لندخل دائرة أخرى من السلالات المتعاقبة من طوائف تمتد من الجزيرة السورية، مروراً بحمص، وانتهاء بدمشق التي تحتضن الحفيدة. رحلة تيه جديدة تقود الشقيقين إلى حكايات أخرى عن الثأر والخيانة والوحشة، في مشهديات خاطفة لن تكتمل إلا حين نكتشف أنّ الحفيدة ناديا التي تروي الحكاية للطالب الكردي الذي لجأت إليه، بعد مشاحنة مع زوجها، هي شقيقته من أمه، وحفيدة غريغور. خلائط من بدو وأكراد وأرمن وشركس يروون الحكاية السورية بتعقيداتها وآلامها وجراحها، فوق منصة مهتزّة. ثيمة المرود والمكحلة التي ينهض عليها العرض، تتجاوز بعدها الحسّي الملموس في شهوات شامل (ابن غريغوار) إلى أبعاد أخرى تتعلق بالنسيج البشري للمنطقة، والتفاوت المعرفي بين الشخوص، إذ تتهشم المقولات الفكرية الراديكالية التي يحملها زوج ناديا، أمام أول عاصفة تواجههما، وستجهض هذه العلاقة تحت وطأة واقع شرس وصلب في مكوناته التي ترفض الآخر. هكذا، يعمل النص على تعشيق ما يبدو للوهلة الأولى متضاداً، وتلمّس مكمن الجرح، باستنفار حاستي النظر والسمع. يفقد غريغور بصره، فتضيع بصيرة الابن في الجيل الثاني، وتفقد ناديا البوصلة في الجيل الذي يليه. تتوق إلى الحب خارج رقعتها، فتعود منكسرة، فيما يمزّق حبيبها الكتب التي لم تحمه من عواصف الأمس، وتهزّ قناعاته المتأصلة بأنّ الحب وحده يكفي لمواجهة السطوة الدينية. على الضفة الأخرى، سيمزّق شامل بطاقته الشخصية بعد ارتباطه بحبيبته الشركسية، ليختار اسماً آخر، في مكانٍ آخر. كأنّ على السوري أن يفحص هويته على الدوام، ليختبر عن كثب صلابة الأرض التي يتحرّك فوقها ومعرفة ذاته، وسط الرمال المتحركة. هكذا يتقاسم الممثلون الخشبة بالتساوي في حيّز سينوغرافي رصين، يلغي الحدود بين هذه الحكايات المتجاورة، ليتيح للتعبير الجسدي حريته في الحركة، وبناء فعل حركي يواكب السردية الدائرية للنص، على خلفية إيقاعات موسيقية (أغنيات أرمنية...) تستحضر مرجعيات بيئية متنوعة هي جوهر الروح السورية في نسختها الأصلية، وفي رهان شبابي استثنائي لافت، على تأصيل فرجة مسرحية مغايرة، يجسدها جماعياً ممثلون شباب، هم: رغد مخلوف، محمود نصر، وسيم قزق، ربا الحلبي، يحيى هاشم، حلا رجب، لوريس قزق، كرم الشعراني، يزن الخليل ونجاح مختار.

«المرود والمكحلة»: 5:00 مساءً حتى 22 نيسان (أبريل) ـــ «مسرح الحمراء»، دمشق ــ للاستعلام: 00963112222016



سؤال الهويّة

في أحد حواراته، قال الكاتب المسرحي عدنان العودة إنّ نص «المرود والمكحلة» يأتي بعد نصّيه المسرحيين «ثنائيات»، و«خيل تائهة». وأضاف إنه أنجز «المرود والمكحلة» خلال ورشة الكتابة المسرحية التي أجراها «المجلس الثقافي البريطاني»، بالتعاون مع «مسرح الرويال كورت». وفي حديثه عن العرض، قال إنّه يطرح سؤال الهوية الثقافية ويظهر غنى الثقافة السورية وتنوّعها، ويحمل توليفة جمالية عالية في الإخراج والسينوغرافيا المسرحية. وعلّق بأن التجارب المسرحية الشابة في سوريا تحتاج إلى دعم من جهات عالمية ثقافية، من شأنها تأمين شروط مادية ومعنوية مناسبة وتستطيع أن تتعاطى مع الفن المسرحي بشكل جيد، وهذا ما يسهم أيضاً في نقل الثقافة السورية إلى العالم.