أول من أمس، خطَف الموت عازفة القانون اللبنانية إيمان حمصي (1967) عن 45 عاماً، أمضَت 38 منها في الدفاع عن (وتطوير) موقع القانون. رغم قدم هذه الآلة التي تنتشر خصوصاً في مصر وسوريا وفلسطين وتركيا وغيرها، إلا أنّها عرفت مع العازفة الهادئة مرحلة مميَّزة. الشرق عموماً حصر استخدام آلاته الموسيقية بالرجل، وقلة من الجنس اللطيف كسرت القاعدة، وبالأخص في العزف على القانون (ربما لصعوبته). أما إيمان حمصي، إن لم تكن الوحيدة، فهي أشهر امرأة ارتبط اسمها بهذه الآلة في عالمنا. لكنّ رحيلها المبكر أتى ربما ليقول إن إيمان خالفت القاعدة، وأتت مخالفتها على قدْر عالٍ من المسؤولية والموهبة والنتائج الفنيّة، فجاء القدَر ليعيد الأمور إلى «نصابها»... إلى إيقاف الراحلة عن تكريس علاقة المرأة بالقانون، أو بالآلة الشرقية عموماً. لكن، أليست أنامل المرأة أجمل من أنامل الرجل؟ أليس هذا ما تنبَّه له الغرب، فكاد يحصر العزف على آلة الـ«هارب» (Harp) بالمرأة؟ أليست الآلة المذكورة أقرب الآلات الغربية إلى القانون من عائلة الآلات الشرقية، وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار تقنية العزف بالأصابع العشرة التي أتقنتها (وابتكرتها، حتى إثبات العكس) إيمان؟

من هذا المنطلق، إن التكريم الذي يليق بإيمان حمصي الذي تتمناه بالتأكيد، هو ردّ الضربة ضربتيْن للقدَر، عبر تكريس حقيقة أنّ القانون يليق بالمرأة أكثر من الرجل.
اشتهرت آلة القانون بدورٍ محوريّ في الموسيقى العربية التقليدية، كونها أساساً في التخت الشرقي. غير أنها أدَّت غالباً مهمّتيْن، واحدة محدودة وتكمن في العزف الجماعي الأحادي الصوت، وواحدة منصِفة بحق الآلة وعازفها وتكمن في فسحة التقاسيم التي تُمنَح لها ضمن القوالب الموسيقية والغنائية الشرقية (وهذا رائج)، أو في العزف المنفرد (منذ زمن العملاق محمّد العقّاد). لكن مسيرة إيمان حمصي مع هذه الآلة شهدت أكثر من تجربة استثنائية، أخرجت القانون من فضائه التقليدي. أولى هذه التجارب كانت مع أداء جملٍ موسيقية غير مألوفة في ريبرتوار القانون تاريخياً، وفي أطُر جديدة ودقيقة تحتاج إلى موهبةٍ كبيرة في مزاوجة العوالم الموسيقية. والمقصود موهبة زياد الرحباني في هذا المجال، إذ وثَّقت إيمان حمصي مجموعة من المواد الموسيقية مطلع التسعينيات (بُعَيْد تخرجها من الكونسرفاتوار)، في ألبوم موسيقى مسرحية «لولا فسحة الأمل». ما يوضِح هذا الكلام هو الإنصات، تحديداً، إلى مساهمة القانون في المقدمتيْن الأولى والثانية للمسرحية المذكورة. مع الرحباني أيضاً، شاركت حمصي في العديد من الألبومات، مثل «بما إنو» (وخاصةً في أغنية «بما إنو» التي تستقبل المتصلين بجريدتنا) و«إلى عاصي» و«مونودوز» (أغنية «ولّعت كتير» فقط) وغيرها. كما حققت حلماً كبيراً، على ما كانت تردد، في انضمامها إلى فرقة فيروز الموسيقية التي رافقتها في حفلات محلية وجولاتٍ عالمية. أما لائحة الموسيقيين الذين شاركتهم تجربتهم في التسجيل أو العزف الحي فتطول لتشمل معظم الأسماء المكرَّسة.
التجربة الثانية التي حملت جديداً إلى عالم القانون هي تطوير إيمان حمصي وإتقانها تقنية العزف بالأصابع العشرة، واستخدمتها كوسيلة لا كغاية في أعمال عدة، نسمعها مثلاً في ألبومها الخاص Lord Kanun (معهد العالم العربي/ 2008). ردَّدت حمصي دائماً أن هذا التطوير من ابتكارها، مع اعتقادها الدائم بأنه قد يكون له مبتكرٌ لا تعرفه، رغم بحثها في تاريخ آلتها. وقد أتتها فكرة استخدام الأصابع العشرة من مراقبتها عازفي البيانو ورغبتها في أداء مقطوعات مكتوبة لهذه الآلة، ولا سيما أنها كانت ملمَّة بشكلٍ هاوٍ في العزف عليها. في سياق اللجوء إلى الوسيلة الفنية التي تحمل طابع المهارة والتقنيات الصعبة، مارست إيمان حمصي العزف المتزامن على آلتَيْ قانون متشابهتيْن (مع فروقات مقصودة في الدوْزَنة)، وذلك في أمسيات حية عدة («مهرجان البستان» 1999 مثلاً).
كانت إيمان حمصي عازفة بارعة وحساسة. خاضت تجربة موسيقية مضنية في زمنٍ فرَضَ التخلّي عن القيَم الفنية كشرطٍ للانتشار والوصول. تشبَّثت بقناعاتها في وجه ما يمكن تسميته «تبييض أموالٍ فنّي»، أي تحقيق الثروات باسم الفن وبغطاء إعلامي (وبالتالي شعبي!) وأحياناً رسمي. رحلت أول من أمس بعد صراع مع السرطان. في الوطن العربي الكثير من عازفي القانون الرجال، لكن من راقتهم علاقة المرأة بهذه الآلة تتجه أنظارهم إلى مواهب قليلة، من شأنها أن تتابع المسيرة وتكرس هذه الصورة... العازفة السورية مايا يوسف مثالاً.



عزاء على فايسبوك

مع شيوع نبأ رحيل إيمان حمصي، أبدى اللبنانيون على صفحاتهم الافتراضية حزنهم على «الخسارة الفنية الكبيرة». ومن بين هؤلاء برز اهتمام الفنانة تانيا صالح (1969ــ الصورة) بالمناسبة، إذ خصّت «سيّدة القانون» بهدية على شكل صورة وردة قرنفل بالأسود والأبيض، مرسومة بخط اليد، قبل أن تحوّلها إلى صورة «بروفايل» على صفحتها الخاصة على فايسبوك. بعد ذلك نشرت صالح صورة أخرى لورود مشكلة مرسومة بالتقنية نفسها تتوسطها عبارة: «إيمان حمصي ترقد بسلام». رسم سرعان ما احتل مكان صورة الغلاف (Cover Photo) على الحساب نفسه، أتبعته صاحبة «بكرا» بمشاركة تقرير تلفزيوني عن رحيل حمصي.



تصبحين على أرّق ذكرى



روي ديب
إيمان حمصي، صعقني خبر رحيلك أول من أمس. في آخر مرة شاهدتك تعزفين فيها، كنت ترافقين ريما خشيش على خشبة «مسرح المدينة». ليلتها وكعادتك كنت بكامل أناقتك، رغم أن المرض كان ينهكك. أذكر كيف علا تصفيق الجمهور مطولاً بعد عزفك الصولو خلال أغنية «سليمى». ليلتها، أحرجك تواصل التصفيق ورحت تدفعين ريما إلى البدء بالغناء مجدداً. خفرٌ رافقك طوال مسيرتك الفنية. رغم إستلامك منصب عميدة مادة القانون في الكونسرفتوار الوطني، وتحديثك وتطويرك لتقنيات العزف على آلة القانون، ومرافقتك لأهم الفنانين والفرق الموسيقية الشرقية، وتأديتك لعروض منفردة، تأليفاً وعزفاً، أذهلت فيها الجمهور، كنت دائمة التواضع. لحسن حظي أنني قررت أن أستغل تقنيات هاتفي الذكي لكي أسجل عزفك، ليلتها. منذ أول من أمس وأنا أعاود سماع ذلك الصولو. بلا توقف، مرة تلو الأخرى.
لست في موقع الإشادة بك كفنانة وعازفة قانون ومؤلفة موسيقى، فمن أنا لأشهد بروعة إحساسك وعظمة عزفك. وأيضاً لم أكن من أقرب الناس إليك، لكي أنصف الإنسانة والزوجة والأم التي كنت. ولكنني أود أن أوجه تحية إلى إنسانة فائقة الرقّة، وإلى أكثر فنانة متواضعة ومحترفة عرفتها حتى اليوم، عبر تجربة تشاركناها في زمن مضى.
في قريتي الصغيرة رأسمسقا في قضاء الكورة، ومنذ حوالي ١٥ سنة، حلم الأب نقولا مالك بتأسيس فرقة إنشاد ديني ترافقها آلات موسيقية. وكان الأب مالك، وهو ملحن موسيقى شرقية وبيزنطية وعازف عود معجباً بعزف إيمان حمصي من دون أن يعرفها شخصياً، فإتصل بها، لعل وعسى تقبل دعوته المتواضعة للعزف في الفرقة. وقبلت يومها.
هكذا كانت تأتي أسبوعياً من بيروت إلى قريتنا للمشاركة في التمارين. خصصت وقتاً، رغم إنشغالاتها الكثيرة، لتمارين لم تكن بحاجة إليها، بل قررت الإلتزام بها أسوة بالآخرين. رافقتنا في جميع حفلاتنا المتواضعة في القرى، وسافرت معنا إلى الشام لإحياء حفلة في البطريركية. طوال سنة كاملة، كانت دائماً حاضرة قبل الجميع أمام آلتها منتظرة بدء التمرينات. لم تظهر يوماً تكبراً أو تشاوفاً على مشروع موسيقي متواضع كمشروعنا الصغير، حيث معظم الموسيقيين من الهواة. كانت لا تبدي الملاحظات الموسيقية إلا حين يطلب منها ذلك، وبخفر شديد. كان كل ذلك من دون أي مقابل ماديّ، نعم، ولكن الأهم بكل إحتراف وإلتزام وتواضع لم أشهد مثله عند الكثير من الفنانين.
إيمان، مرّت السنين، وعدنا فإلتقينا أمام باب «مسرح المدينة» بعد حفلة ريما خشيش. كان رفيق دربك كابي يحمل عنك آلة القانون، وتهمّان بالعودة إلى البيت. ناديتك، فتعرفت إليّ رغم مرور 15 سنة. تحدثنا عن ذكريات تجربتنا القديمة وعن القرية، وعن الأب نقولا مالك، وإتفقنا على لقاء قريب. لم يحدث اللقاء، ولم أكن أدري أنها كانت آخر مرة نلتقي فيها. أول من امس، قبل أن أنام عدت إلى هاتفي مجدداً لكن هذه المرة لأودعك. كانت المرة الأولى التي أشعر فيها أن وسائل التواصل الإجتماعي بإمكانها أن توصل كلماتي إلى من أصبح غائباً، فكتبت على صفحتي على فايسبوك: «إيمان أعطيت الحياة أكثر مما أعطتك، تصبحين على أرّق ذكرى يا حلوة»