اعتبر المؤرخون كتاب Opera للطبّاخ بارتولوميو سكابي بأهمية مايكل أنجلو في الرسم والنحت في عصر النهضة. ليس هناك مقارنة منطقية بين الرسم والطبخ طبعاً، ولكن التعبير المجازي يسمح بالتذكير بأهمية بعض الفنون التي تُوضع عادةً في الدرجة الثانية، ويُنظر إليها كتحصيل حاصل داخل الممارسات اليومية لأنماط العيش والسلوك الاجتماعي. الطبّاخ الذي اشتهر في منتصف القرن السادس الميلادي كانت أفكاره حول أسلوب الخدمة وتقديم الطعام ووصفات الطبخ جزءاً خفياً من مسيرة النهضة الأوروبية، وكان ذلك جزءاً من تراكم التحضر والتمدن التاريخي والإنساني. داخل هذا التصور، وبمفعول رجعي، تُنجز بلقيس شرارة كتابها الموسوعي «الطبَّاخ/ التطور التاريخي والسوسيولوجي للطبخ وآداب المائدة» (المدى). على امتداد ما يزيد على 750 صفحة، تنقّب الكاتبة والباحثة العراقية في ما يمكن تسميته «تاريخ الطعام» أو أركيولوجيا «قوت الارض» إذا استعرنا العنوان الشهير لكتاب أندريه جيد.
الطبخ كفن وذوق ونكهات وخلطات يأتي تالياً، بعد تنقيب المؤلفة عن بدايات الفكرة منذ العصور القديمة، وخصوصاً مع اكتشاف النار التي غيّرت سلوك الإنسان كله، وليس طريقته في تأمين ما يسدّ جوعه الفطري والبدائي. هكذا، يعود بنا الكتاب إلى المجتمعات القديمة للإغريق والصينيين والفراعنة وبلاد الرافدين والرومان والهنود، وصولاً إلى ثقافة الطبخ في الحضارة الإسلامية والعصر الوسيط، حيث نقرأ بحثاً توثيقياً لأداوت الطعام البدائية التي طُوِّرت لاحقاً، إضافة إلى بواكير نشوء عادات وتقاليد لتناول الطعام في أوقات محددة في اليوم، إلى جانب آداب الجلوس على المائدة.
بعد المقدمة العميقة التي وضعها المعمار العراقي رفعة الجادرجي (وهو زوج المؤلفة بالمناسبة)، تنشغل الفصول الثمانية الأولى بهذه الخلفية التاريخية العامة التي تربط بين التطور الاجتماعي وسلوك الأفراد والجماعات في تحضير الطعام، وطرق تناوله، ودرجة المهارة والذكاء في اختراع وتحسين أدوات الأكل، بينما كانت تفاصيل مثل تقطيع اللحم أو عصر الفاكهة واستعمال التوابل تنقل البشر من مرتبة إلى مرتبة أعلى، قبل أن تتحول إلى بداهات عادية ومكرورة في العصور التالية. مع تقليب صفحات العصر الوسيط، يأخذ المطبخ شكله المتكامل تقريباً، ويكتسب الطباخ صفة الفنان والمبدع، وظهر في تلك الفترة طهاةٌ عُرفوا بأسمائهم، وشغلوا مناصب لدى النخبة السياسية والاجتماعية والدينية في المجتمع، إلى جانب ظهور أشكال متطورة من الحوانيت والدكاكين التي تبيع الأطعمة واللحوم والخضار، وظهور بواكير كتب الطبخ. ثم يأتي عصر النهضة الذي شهد ثورة في طرق تحضير الطعام وآداب المائدة، ومنها نشوء «فن الحديث» كجزءٍ من السلوك على الموائد، وشرب القهوة، والتفنن في تحضير الحلوى، واستعمال المزهريات، والأهم ظهور الشوكة (ثم السكين) التي صار الطعام يُنقل بها إلى الفم بدلاً من الأصابع، وهو ما اعتبره بعض رجال الدين «بدعة لا يستعملها إلا المخنّثون والنساء». وكجزء من التطور الحاصل، شهدت تلك الحقبة إقبال بعض الكتّاب والمفكرين على الكتابة عن الطعام والطبخ والصحة، ويأتي الكاتب الفرنسي فرنسوا رابليه في طليعة هؤلاء، حيث تنطلق المؤلفة من هذا التفصيل للحديث عن دور اختراع جوهان غوتنبرغ، السويدي، المطبعة في «تغيير مفاهيم المجتمع»، وكانت لمؤلفات الطبخ حصتها في ذلك. معلومة مثل هذه ستعاود الظهور في الصفحات التالية للحديث عن «دور الكتّاب وتأثيرهم على فنّ الطبخ» في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومنهم فولتير وجان جاك روسو. الطبخ وقواميسه وآدابه، سيكون حاضراً في الفصول الأخيرة التي تنتقل فيها المؤلفة إلى عصر الثورة الفرنسية والعصر الصناعي وعصر العولمة، حيث تستدعي التغيرات الحياتية السريعة تغيراتٍ مماثلة في سلوك الأفراد وشرائح المجتمعات التي حدثت فيها هذه التغيرات، أو في المجتمعات التي انتقلت إليها التغيرات بحكم التأثر الطبيعي لأفكار الحضارة والتمدن البشري. هنا أيضاً، تظهر أسماء بعض الكتّاب مثل إميل زولا وتولستوي وتشيخوف، بينما ظهور «المطبخ الحديث»، في سبعينيات القرن الماضي، سيمنح الغلبة للتفاصيل المتناهية في الصغر التي سيحدد فيها سلوك الفرد أثناء الأكل جانباً واسعاً ومهماً من ثقافته ومزاجه ودرجة رقيّه الاجتماعي، وهو ما سيفتح خاتمة الكتاب على ظهور المخازن الكبرى، وحياة المقاهي، ورواج فوبيا البدانة وأفكار الريجيم والتغذية السليمة، وسيكون ذلك بدايةً لصياغة جانب أساسي من هوية الإنسان المعاصر وبصمته الوجودية في الحياة