رغم أننا أمام لوحات تشكيلية، إلا أن المذاق السردي هو الانطباع الأول الذي يصلنا في معرض جنان مكي باشو (1947) الذي افتُتح أخيراً في «غاليري أيام» تحت عنوان «صورة طيفية». التأليف السردي حاضرٌ في اللوحات العشر التي تنطلق فيها الرسامة اللبنانية من أصل فوتوغرافي يخضع لممارسات مختلفة من الكولاج والكتابة والطباعة وألوان الأكريليك. التأليف هو الفكرة التي تعبر حدود اللوحات، وتمنحها مزاجاً واحداً أيضاً. المعرض أشبه برواية مذكرات شخصية تقلّب فيها الرسامة ألبوماتها الشخصية والعائلية على مرأى من زوار المعرض. الصور الشخصية تعزّز حميمية المعرض، ولكنها لا تعني أن ما نراه هو مسألة محض شخصية. هناك ماضٍ شخصي يتقاطع أو ينفتح على ماضي المدينة التي عاشت فيها صاحبة الصور.
تقليب الصور أشبه بزيارات متكررة لسعادات قديمة تجاورت في الماضي مع جروحٍ وندوب خلفتها الحرب الأهلية التي تبدو مثل فاصل عنيف يقسم السيرة التي نراها، ويفتّتها إلى شذرات وأشلاء متقطعة. بهذه الطريقة، يبدو المعرض مديحاً لسيرة امرأة عاشت العصر الذهبي لبيروت، بينما لا يتوقف هذا المديح عن تلقّي أثر الأهوال التي عاشتها المدينة في زمن الحرب.
تبدأ اللوحة من أصل فوتوغرافي يتم تعريضه لتدخلات مرتجلة تسمح بتكثير الانطباعات التي يمكن أن تكتسبها الصورة من إضافة اللون، أو من وضع صورة أخرى أو صورتين في المساحة ذاتها، أو من خلق طبقات فوتوغرافية ولونية متعددة تتراءى دفعةً واحدة لعين المتلقي. أحياناً تكون الصور كلها للرسامة نفسها، وأحياناً تحضر صورة الأب والأم والأبناء، ويترافق ذلك مع ظهور مشاهد وأماكن بيروتية في الخلفية، مثل مقهى الـ«هورس شو» الذي يظهر في لوحة تحمل اسمه، وكذلك مقهى الـ«أوتوماتيك» وأمكنة ومحالّ أخرى مُحيت من الوسط التجاري الحالي للعاصمة، ومدخل فندق «فينيسيا»، وواجهة المطار القديم، إلى جانب صور متفرقة لأمكنة أخرى في لبنان والخارج، حيث أقامت الرسامة المخضرمة سنوات طويلة في الولايات المتحدة، قبل أن تعود في أوائل التسعينيات. هكذا، يحظى المعرض بقيمة توثيقية أيضاً، بينما تتعزز الصورة المؤرشفة بطاقة الحنين التي تغطي اللوحات جميعها بغلالة من الأسى والشجن. الحنين هنا (عنوان إحدى اللوحات) يكتسب ذلك المعنى الوجودي الذي شرحه ميلان كونديرا في رواية «الجهل»، إذْ يتحول الماضي إلى فردوس مفقود مقارنة بالحاضر الذي يتحلى بصفات المنفى الاختياري. المعرض هو بحث عن هذا الفردوس أو عن «الزمن الضائع» كما في رواية مارسيل بروست الشهيرة.
صفاتٌ مثل هذه تحوِّل اللوحات إلى أيقونات منذورة للذات وللمدينة معاً، ولكنها لوحات تفيض ببعض المذاقات السياحية المقلوبة. كأن ما نراه هو إعلانات ترويجية أو «كارت بوستال» عن مدينة عاشت في زمن الحرب والسلم. بطاقات تقبض على زمن مختلف يرشح بالألم والحنين بعدما كان زمناً لمدينة مزدهرة لا تزال تحظى بإغواء خاص بالنسبة إلى أهلها وزائريها. اللوحات هي مزيج من الانطباعات التي سعت فيها الرسامة إلى مدح الماضي ورثائه في الوقت نفسه. مزيجٌ طالع من مزيجٍ مماثل في الخيارات والتقنيات التشكيلية. جنان مكي باشو التي سبق لها أن رسمت وجوهاً وتشخيصات تعبيرية، وأنجزت تجريدات لافتة في معرضين سابقين، تخلط تلك الممارسات كلها في معرضها الجديد، حيث تتوالى أطياف الطفولة والماضي مع أطياف الحاضر. كأن اللوحات قبضٌ آخر على الزمن الذي قبضت عليه الصور الأصلية التي استُلَّت من الألبومات، وسُكبت بكامل جمالها وحزنها أمام أعيننا.

«صورة طيفية»: حتى 31 أيار (مايو) ـــ «غاليري أيام» (الزيتونة/ بيروت)، للاستعلام:01/374450



دفتر الفنان

إلى جانب اللوحات الكولاجية، تعرض جنان مكي باشو واحداً مما يسمى دفتر أو كتاب الفنان، وهو كتابٌ مصنوعٌ يدوياً ويضم صوراً شخصية و«يوميات امرأة» بحسب عنوانه الخارجي. الكتاب الذي أنجز سنة 1986، وعُرض في صالات ومتاحف وجامعات أميركية عديدة، يعزز فكرة «السرد» و«الصورة» التي يثيرها المعرض. يضاف إلى ذلك شريطٌ ورقي يحتل مساحة كبيرة في مواجهة الزاوية التي فُتح فيها الكتاب للجمهور، ويحتوي على صورٍ وسرديات مماثلة. تعدد الأبعاد السردية والفوتوغرافية ظهر في لوحات ومنحوتات وكتب أخرى، وهو ما يذكرنا بتجربة خاصة في مسيرة الفنانة التي استخدمت شظايا القذيفة التي دمرت شقتها في الحرب سنة 1982 في إنجاز عدد من المنحوتات. هكذا، صارت الحرب جزءاً حقيقياً من تأليف العمل، وليست فقط طيفاً أو خلفية قاتمة في الأطياف المتعددة للمعرض الجديد.