يحوك الكاتب الفلسطيني محمود شقير نسيج روايته الجديدة «فرس العائلة» (دار نوفل ــ بيروت) بنول يدوي، فتتشابك الخيوط تدريجاً، في زخرفة فضاء أسطوري يتعلّق بتاريخ بدو فلسطين مطلع القرن المنصرم، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كأننا أمام «ماكوندو» أخرى في عزلتها السحريّة. بريّة فسيحة على تخوم مدينة القدس، وسلالات بدويّة تحافظ على وجودها بالفروسية والحكايات والخرافة.
ثلاثة أجيال لعشيرة مرّت بتحولات جذرية، تبعاً لتطوّر الأحوال في محيطها. يُقتل الجدّ الأكبر عبد الله على يد عشيرة أخرى عند بئر ماء، فيخلفه ابنه محمد، ثم حفيده منّان. سيبقى عبد الله ذكرى حاضرة بقوة، منذ أن عادت فرسه إلى مضارب العشيرة من دون فارسها، لكنها ستختفي لاحقاً، من دون أن تغادر أحلام نساء العشيرة، حتى إنّ أحد أبناء منّان يولد بأذني حصان. باحتضار محمد بعد عودته من الحج (احتضار الحقبة العثمانية)، يصبح منّان مختاراً للعشيرة بأمر من الضابط الانكليزي آدمز. هكذا تدخل حياة البدو عتبة أخرى مثقلة بالهموم والتحديّات الصعبة. يطوي منّان صفحة الأمس، حين يقرر الاستقرار في قرية قرب القدس تدعى رأس النبع. يتردد بعضهم، ويرفض آخرون الفكرة، لكنهم، في نهاية المطاف، سيغادرون البريّة، إيذاناً بانتهاء زمن رعوي لطالما مثّل وعاءً لذكرياتهم وقيمهم ومسراتهم وأحزانهم، لينخرطوا في بناء عالم ريفي مرتبط بالمدينة.
هنا يلجأ صاحب «خبز الآخرين» إلى سرد شفوي مطعّم بالمحكية البدويّة، يتلاءم مع مناخات عالمه الروائي، ويستنفر عشرات الشخصيات في تأثيث متواليته الحكائية، وإن تفرّدت صبحا في توثيق سيرة العائلة إلى لحظة غيبوبتها الأخيرة، في نهاية الرواية، حين تخاطب وضحاء بقولها «هالحين أجا دورك بالحكي». شهرزاد البدوية لا تكف عن استحضار الزمن السعيد الآفل، في مواجهة القيم الجديدة التي أصابت سلالة منّان بمقتل. تتشابك المرويات باطراد، نظراً إلى الانتقال من المكان القصي المفتوح على الخلاء إلى المكان الضيّق، فتنشأ حكايات سرية وراء الشبابيك والأبواب على عكس ما كان يحدث في البريّة، إذ سوف يشيع السرّ على الفور بين كل البيوت، وسننتبه إلى زخم الحضور الأنثوي، واختلاف حضور الجسد لجهة الشهوانية البدوية، أو لجهة التكتّم المديني، والريبة من الغرباء. هكذا تكتشف نجمة إغواء الحمّام التركي في القدس، ومباهج المدينة، فيما يُتهم محمد الكبير بأنه يعمل في ماخور يهودي في حيفا، رغم إنكاره ذلك، فيطرده أبوه منان من بيته، تجنباً للعار، ولكن وطّاف سيتعلّق بغجرية ويتزوجها، فيما تهرب فلحة مع بائع متجوّل. تحولات متواترة تطيح طمأنينة الأب، وهو يراقب انهيار القيم البدوية القديمة التي نشأت عليها عشيرته، بالتوازي مع الأحداث السياسية التي طرأت على البلاد، وتفتّح جيل جديد على مقاومة الانتداب البريطاني، ومشاريع الوكالة اليهودية، وهجرة اليهود إلى فلسطين، فتحضر أسماء شخصيات وطنية أدت أدواراً مؤثرة في الوعي الفلسطيني، مثل أمين الحسيني، وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم طوقان، وخليل السكاكيني... تتجاور الحكايات الميثولوجية مع الوقائع الحياتية، كأنها حقائق مؤكدة غير قابلة للشك، إذ يفسّر المنام ما هو مفتقد في الواقع، في تناوب صميمي. يطمئن منّان على ابنه يوسف المفقود منذ اندلاع الثورة، بمجرد أن يراه شقيقه محمد الصغير في منامه، وتتهيأ صبحا للموت بعد أن تلتقي زوجها محمد الأول في المنام الذي يبدي فيه شوقه إليها، فتطلب من ابنها أن يدفنها في مقبرة البريّة إلى جانب زوجها، فيما تصهل فرس العائلة في منامات مثيلة. وحالما تغيب الفرس عنها تطاردها الكوابيس، وتتوقع مصيبة جديدة ستحلّ على أحد ما في سلالتها. تفكّك المكان الأول بأساطيره وأضرحته وغزواته وانكساراته، سترممه إحداثيات مدينة القدس بشوارعها وأسواقها وأماكنها الدينية، وتعددها الثقافي، وهو ما انعكس على سلوكيات البدو، الذين انخرطوا في مشروع التمدّن، وإن ظلت القيم البدوية حاضرة في وجدانهم الجمعي. نحن إذاً، إزاء مدوّنة ضخمة برواة متعددين، يتداخل في نسيجها الحكي الشفوي مع الوقائع التاريخية، كأن محمود شقير أراد أن يكتب «مائة عام من العزلة» فلسطينية، لكن من موقع مختلف.