القاهرة | أب مصاب بالشلل، وأم تعمل ممرضة في أحد المستشفيات الحكومية البائسة، وابنة غير جميلة وغير متزوجة. تمضي المخرجة هالة لطفي يوماً في بيت هذه العائلة المتواضع في «السيدة عائشة» إحدى المناطق الشعبية في القاهرة. في باكورتها الروائية الطويلة «الخروج للنهار» الذي عرض أخيراً في القاهرة، ثمة مشاعر لا يمكن التعبير عنها بالمبالغة في الانفعالات. «الخروج للنهار» نبذة من حياة أسرة مصرية تعيش تحت خط الفقر، تكابد همومها اليومية باستسلام يبلغ حد اليأس وبتقشف العواطف.
أم (سعاد النجار) تشبه الأموات، تعيش مع المرض بحكم عملها ممرضة أولاً، وبحكم مرض زوجها المقعد (أحمد لطفي) المستسلم لشلله كأنه طال روحه أيضاً. الإنهاك الذي يتبدى على ملامحها آت من الموت الذي يحوم بجوه المقبض على كل تفاصيل البيت البسيط. الابنة الثلاثينية سعاد (دنيا ماهر) تعين أباها على المقاومة، وتساعده في لبسه وأكله، وثمة غضب مكتوم يحاول الخروج أحياناً في تعابير وجهها التي تقترب من الجمود. النظرات التي تتبادلها مع أمها مليئة بالأسئلة، لا تلبث أن تختصرها في سؤال بسيط وهي تعالج قروح والدها جراء النوم المستمر على السرير «سألتِ على المرتبة الطبية؟» (فراش النوم).
«الخروج» هو مفتاح قراءة الشريط. سعاد ذات الملامح غير الجميلة، تحاول الخروج من جحيم البيت إلى الجحيم الواسع في مدينة قاتمة مثل القاهرة. تطلب من أمها أثناء معاونتها في تغيير ملابس والدها أن تخرج قليلاً، «ساعتين بس» تعد لنفسها كوباً من الشاي، وتستمع إلى أحد شرائط الكاسيت ليخرج صوت محمد عبد الوهاب، ويرطب جفاف الجو وخشونة المعيشة. تسرح سعاد في خيالاتها بينما يدق الباب لتجد ابن خالتها (جلال البحيري) المجند في الجيش المصري. توقظ سعاد أمها التي ترتاح استعداداً ليوم آخر في المستشفى، وتجهز الغداء. البؤس الذي يكسو ملامح كائنات هذا البيت ليس نابعاً من ظروف إنسانية واقتصادية قاسية فحسب، بل من أسئلة الحياة التي لا تظهر بفجاجة من خلال ميلودراما زاعقة. الحياة تدوسهم ببطء لا يسمح لهم بالصراخ، المعاناة الصامتة في سجن القبول والاستسلام.
تستعد البنت الثلاثينية للخروج من البيت، تنظر إلى نفسها في المرآة، تلملم شعرها الأشعث، غير متأكدة بأنّ مظهرها يليق بالخروج. تسأل أمها «حلوة كده؟». نظرات الأم اللوامة تؤلم، وسؤال سعاد المتشكك يطلب مواساة غير موجودة لدى الأم. تركب سعاد أحد ميكروباصات القاهرة المتجهة إلى «التحرير». تقابل بنتاً تبدأ الحديث مع سعاد وحركاتها العصابية لا تتوقف. تسألها عن الطرحة وإن كانت مضبوطة جيداً على رأسها، وتسرد معاناتها مع أعمال السحر، وتسأل سعاد بعفوية «انتي مسيحية؟». السؤال يدفع بواقع قاس في وجه المشاهد دفعةً واحدةً. الحجاب هو رمز هوياتي للبنت المصرية المسلمة، والمفارقة الأليمة أنّ البنت ذاهبة إلى أحد القساوسة حتى «يفك العمل» الذي يمنعها من الزواج. هنا يقع المشاهد في حيرة عما إذا كانت البنت تعيش معاناة حقيقية، أم تستخدم هذه المعاناة للاحتيال. تطلب مالاً من سعاد وتطلب النزول من الميكروباص.
سعاد تحاول لقاء حبيبها الذي لا يرد على مكالماتها، فتتصل به من الشارع، تحثه على الخروج، على الهرب من هذه المقبرة الواسعة، لكنه لا يستجيب، فما كان منها إلا الاتصال بإحدى صديقاتها لزيارتها، ولا نعلم ما إذا تمت هذه الزيارة أم لا. ترتجل سعاد بعض البهجة. تذهب إلى أحد صالونات تصفيف الشعر، ربما نلمح شبح ابتسامة خجلى، ربما لا. الثابت أنّه بعد أن تصفّف سعاد شعرها، تجمعه في عقدة صغيرة مجدداً، وترفع الشعرات النافرة باضطراب. تدخل إلى أحد محال الأدوات الطبية لتسأل عن «المرتبة الطبية» ثم يأتيها هاتف من أمها، لتعلم أنّ أباها في المستشفى ثانية. تهرع إلى هناك. بعد خروجها من المستشفى، تذهب إلى الحسين وتتشبث بالمقام. لا نعلم ماذا تطلب من صاحبه، تركب ميكروباصاً آخر للعودة إلى البيت. هنا تضطرب من السائق ذي الملامح الشرسة، فينزلها في منتصف شارع مظلم، عند مقابر «عين الصيرة»، لتجلس سعاد تطالع الأبد حتى مطلع الفجر. وعندما تعود إلى البيت، لا تجد غير وجه أمها المنهك شبه الميت ينتظرها لتسألها أقسى سؤال: «هو احنا هندفن بابا فين؟».
الكاميرا تنقل صورة شديدة القسوة خالية من المشاعر، والإضاءة تلقي جواً مقبضاً، مع شريط صوتي يتماهى مع تقشّف المشاعر (باستثناء أغنيتين) وضجيج القاهرة غير المتناغم، والسجن الكبير... أو كما تقول لطفي «كيف نصنع سجوننا بأيدينا من خلال قبولنا، وبنبل كبير، حياةً يمكن وصفها بأي شيء إلا النبل»؟».