تستضيف بيروت الليلة أحد أكبر المخرجين وأكثرهم إثارة للجدل. الرجل الصغير الذي يمدّ لسانه للعالم، بتسريحته الـPunk، يذكّر بتلك الكائنات الفضائيّة المستعصية على التصنيف. «إرهابي» خطير تسلل ذات يوم إلى الخشبة، فكسر القوالب وخلط الأساليب، لينتج خطاباً فكريّاً وجماليّاً جديداً، تغور جذوره في قلب الراهن السياسي والاجتماعي.
رغم اختلاف الوسائل والمقاربات، يمكن اعتبار بيتر سيلرز أحد الأبناء الشرعيين لبرتولت بريخت. يُخرج الحدث من سياقه المتوقّع ليسقطه على أزمنة مختلفة، ويمنحه أبعاداً وقراءات جديدة. هذا الأميركي الـhightech الذي يصدم معاصريه، دأب على تفكيك القوالب السائدة، بل تخريبها، طارحاً الأسئلة المقلقة حول الاستغلال والعنصريّة والفقر والهجرة والديكتاتوريّة والايديولوجيا وهيمنة الامبراطوريّة...
الفرجة لدى سيلرز (في المسرح والأوبرا) فنّ سياسي بامتياز، فعل انقلابي على السائد. أيّام الجامعة في هارفرد، قدّم «أنطونيو وكليوباترا» في حوض السباحة. ومنذ ذلك اليوم، لم يتوقّف عن الابتكار الهاذي، بين نقد وسخرية وعصيان. «دون جيوفاني» في عمارة مهجورة في هارلم، «عرس فيغارو» في ناطحة سحاب في نيويورك. «بيريكلاس» شكسبير متسكّع فقد كل ما يملك في عهد ريغان، «كزيريس» ملك الفرس نسخة عن صدّام حسين، «أجاكس» وضعه في البنتاغون حيث تدار سياسة أميركا الاستعماريّة. جعل نيكسون وماو يرقصان الفوكستروت (أوبرا «نيكسون في الصين» من تأليف شريكه الدائم جون آدامز). أما مسرحيّة «تاجر البندقيّة» فنقل أحداثها إلى ضواحي لوس أنجلس حيث تتواجه الجاليات الاسبانيّة والآسيويّة والسوداء، لتفكيك آليات العنصريّة في أميركا المعاصرة (١٩٩٤). في تلك المسرحيّة اعتمد، كدأبه غالباً، على بنية تكنولوجيّة متينة من شاشات الفيديو الموزّعة في الصالة لمتابعة محاكمة شايلوك. وقبلها بعامين، أدهشتنا قراءته لـ«الفرس» على خلفيّة العدوان الأميركي على العراق. على طريقة أسخيلوس الذي حارب مع الاغريق وعاد ليكتب رواية الحرب بعين أعدائه الفرس، أراد أن يروي التاريخ من وجهة نظر المهزوم، بمشاركة السوداني الراحل حمزة الدين الذي عبّر عوده عن معاناة العرب ولوعتهم. وأخيراً ذهب إلى مالي، ليقدّم، برفقة صاحبة «نوبل» توني موريسون، والمغنية رقيّة تراوري، «ديزدمونه». أهمّ ما في زيارة سيلرز البيروتيّة هو الشراكة مع مجموعة «زقاق» التي تبدو اليوم في طليعة المختبر المسرحي الجديد في العالم العربي.