بدأ منذ سنوات قليلة البحث الجدّي في «أزمة» الموسيقى الكلاسيكية الغربية. أسئلة كثيرة يحاول الناشطون في هذا المجال (نقاد، موسيقيون، منتجون، ناشرون...) الإجابة عنها، وبالتالي اتخاذ خطوات عملية للحدّ من تراجع سوق هذه الموسيقى على مستويَيْ الحفلات والتسجيلات. الفارق الإيجابي الناتج من طرْح «أرقام» الثمانينيات من «أرقام» اليوم... كارثي!
هذا إحصائياً. أما عملياً، فمحاولات تقليص هذا الفارق، أو في الحدّ الأدنى تثبيته، شغلت الجهات المعنية، كلّ حسب مجاله. لكنّ ثمة اعترافاً من الجميع بأن عصرَنَة هذه الصناعة الفنية تبدو الأكثر إلحاحاً للحد من تراجعها. فهِمَ البعض هذه المسألة من زاوية خاطئة، وبالتالي مسيئة للموسيقى الكلاسيكية كما للجمهور، إذ اعتقدوا أن مشكلة تلقيها تكمن فيها، فعمدوا إلى «تسطيحها». البعض الآخر ــ بيتر سيلرز منهم ــ ساروا في اتجاه سليم. احترموا أولاً قدسيّة الأعمال الموسيقية، ثم شرعوا في معالجة أساليب إيصالها. انطلاقاً من مهنته كمخرج، عمد سيلرز إلى ابتكار رؤيةٍ إخراجية مميّزة، ترتكز أولاً على تكسير الهالة التي تحيط بالأعمال الأوبرالية، محاولاً القول إننا في القرن الحادي والعشرين لناحية الصورة، بصرف النظر إن كانت موسيقى هذه الأوبرا أو تلك تعود إلى القرن الثامن عشر، وأحداثها تدور حول أساطير طاعنة في القِدَم. من جهة ثانية، تبنّى الرجل النتاج الأوبرالي المعاصر، وهذا بديهي ومتوقع (وطبعاً المهمة أسهل هنا)، فارتبط اسمه بمواطنه المؤلف الموسيقي المعاصر جون آدامز. قدّم إلى جانبه العديد من الروائع التي منحت فن الأوبرا بشكله الحديث دفعاً كبيراً، تماماً كالثنائي فيليب غلاس (مؤلف)/ روبرت ويلسن (مخرج). أما الـ«لوك»، فهو جزء من هذه الاستراتيجية، بالمقارنة مع العاملين في مجال الموسيقى الكلاسيكية (من موسيقيين ومخرجين وغيرهم)! تسريحة شعره، إن دلَّت على شيء، فعلى فرق البانك والروك الصاخب، لكن قلبه يمتلئ عشقاً لموزار وهاندل وباخ وغيرهم. تماماً كعازف الكمان نايجل كينيدي، شبيهه في الشكل والذائقة والرؤية الخاصة للموسيقى الكلاسيكية.
المخرج الأميركي يزور لبنان لإلقاء محاضرات وإجراء حوارات مع المهتمّين. يشمل البرنامج موعداً مع إحدى إبداعاته في مجال إخراج الموسيقى الكلاسيكية. عند الثالثة من بعد ظهر الاثنين المقبل في «الجامعة الأميركية في بيروت»، يشاهد الجمهور على مدى أكثر من ثلاث ساعات رؤيته الإخراجية لعملٍ غايةٍ في الدِّقة هو «الآلام بحسب القديس متى» لباخ. إلى جانب إخراجه العديد من الأعمال الأوبرالية (وخصوصاً ثلاثية موزار/ دا بونتي الإيطالية، أي «زواج فيغارو»، و«دون جيوفاني» وCosi Fan Tutte)، أنجز سيلرز مجازفةً استثنائية في إخراج رائعة باخ التي نشاهدها في زمنٍ مناسب جداً لها: زمن الفصح. يوصف هذا القرار بالمجازفة لأسباب عدَّة. أولاً، إنّ العمل المذكور هو ديني بحت. ثانياً، هو دينيّ يروي مناسبة حزينة، وبالتالي التعامل معه أدق من المناسبات السعيدة. ثالثاً، هذا العمل هو من نوع الـ«أوراتوريو»، وبالتالي لا تمثيل ولا سينوغرافيا فيه، لذا تنحصر الرؤية الإخراجية بالتصوير والإضاءة وبعض التوجيهات للمغنيَيْن اللذين «يمثلان» دورَيْ المسيح والإنجيلي إضافة إلى المغنيين الأساسيين. رابعاً، لم يقم سيلرز بهذه التجربة في إطار مغمور لتفادي الضجة في حال عدم تقبّل «فعلته». لقد اختار البقعة التي تتسلط عليها كل الأضواء: أوركسترا برلين الفلهارمونية بقيادة سايمون راتل (فضلاً عن المغنين المشاركين أمثال الباريتون توماس كواستوف). في المناسبة، لا يجب تفويت العرض النادر لهذا العمل الذي لم يحمل توقيع بيتر سيلرز كإخراج بل كـ«تطقيس» (Ritualization)، فهو غير متوافر في السوق (مع أن تسجيله يعود إلى نيسان/ أبريل 2010). إنه أول سلعة من نوعها تنتجها وتوزعها الأوركسترا المذكورة، وهو معروض للبيع على موقعها الإلكتروني فقط! كذلك يُذكر أنها المرة الأولى التي يقود فيها سايمون راتل «آلام» باخ، فيترك بذلك بصمته في ديسكوغرافيا «برلين»، قبل أن يتركها في 2018، كما صرَّح منذ شهريْن، محدثاً ضجّة في الوسط الموسيقي، لأن عقد قيادة هذه الأوركسترا هو لمدى الحياة، كما هو معروف.