أهم ما يميّز كتاب رياض طبارة «أميركا والحريات ــ نظرة تاريخية» (دار الريّس) أنّه يقدّم نظرة نقدية موضوعية مدعومة ببحث تاريخي معمق عن الإمبريالية في القرن الـ 21 وانعكاساتها على العالم حالياً. لا يفعل الكاتب ذلك بسبب كرهه لأميركا أو للقيم الأخلاقية الغربية، بل لأنّ التزامه الديموقراطية والحرية، دفعه إلى كشف الغطاء عمّا يُسمّى «نشر الديموقراطية في العالم»، وخصوصاً في العالم الثالث، بينما هو بالفعل استمرار لفرض أنظمة وممارسات مخالفة لهذه المبادئ. طبارة الذي درس وتخصّص في أبرز معاهد أميركا والغرب، وعمل في مؤسسات الأمم المتحدة وسفيراً للبنان في واشنطن، يركز على موضوع الحريات وتعامل قادة أميركا في الماضي والحاضر مع هذا الموضوع، ولكنه يتطرق إلى سياسات الداخل القمعية التي مورست ضد الأقليات الإثنية والعرقية وضد المجموعات الإسلامية والشرق أوسطية، وخصوصاً بعد تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وقد مارسها نظام الرئيس جورج بوش الابن، ومن بعده نظام خليفته الرئيس باراك أوباما، مع أنّ الأخير وعد بإلغاء سياسات بوش القمعية.
وبما أنّ الكتاب يتضمن الكثير من النقد المستند إلى الوقائع لسياسات بوش الابن ومن قبله لرؤساء أميركيين آخرين، سنركّز في هذا العرض على انتقادات طبارة لسياسات أوباما المتخاذلة والمتراجعة عن الوعود التي قدّمها في حملاته الانتخابية في رئاستيه الأولى والثانية. يقول الكاتب: «خلال حملته الانتخابية (الأولى)، أطلق باراك أوباما وعوداً كثيرة أولها وأكثرها شهرة كان الوعد بإغلاق معتقل غوانتانامو، كونه أضعف الأمن القومي الأميركي ومثّل صرخة جامعة لأعدائنا». غير أنّ أوباما سرعان ما استدار على نفسه وأكمل الطريق التي رسمها بوش الابن في هذا المجال، «فلم يكتف بالإبقاء على سياسات بوش بل قام بتطويرها». ويضيف: «كان يُفترض أن تنتهي قوانين بوش للتنصّت في المكاتب والمؤسسات وملفات الأطباء وسجلات مزودي الإنترنت في نهاية أيار (مايو) 2011، غير أنّ البيت الأبيض أعلن أنّ أوباما يريد تجديداً أطول مما كان الجمهوريون في الكونغرس يقترحون... وإدارة أوباما تسعى اليوم لتوسيع صلاحيات مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) في التفتيش التعسفي ومراقبة تلاميذ الجامعات وتحرك السيارات عبر تحديد مواقع تحركها (GPS) وإجبار الشركات على فتح سجلاتها وسجلات شركات الهواتف الخلوية ومحتويات البريد الإلكتروني ومواقع الإنترنت ومشتريات بطاقات الائتمان وجداول السفر والسجلات الطبية والفايسبوك، وكل ذلك من دون الرجوع إلى القضاء». وهذا يعني وفق الكاتب أنّ «القسم الأكبر من الحياة الشخصية (عموماً) أصبح مكشوفاً بالنسبة إلى الدولة الأميركية، ليس فقط بالنسبة إلى الأميركيين، بل بالنسبة إلى معظم سكّان العالم».
ويضيف طبارة أنّ «الاعتقال من دون محاكمة كان قد أصبح من ممارسات الحكومة الأميركية الروتينية في عهد الرئيس بوش الابن، إلا أنّ ما فعله الرئيس أوباما هو جعله قانوناً فدرالياً وجزءاً من منظومة القوانين الأميركية المرعية الإجراء». أما بالنسبة إلى «التسليم الاستثنائي، فإنه ما زال جارياً، يختطف مشتبه بهم في أي دولة ثم يُنقلون ويُسلّمون إلى سجون في دول مختلفة حيث يجري استجوابهم بطرق غير مسموحة في أميركا والغرب».
ويطرح المؤلف السؤال الآتي: «إذا كان يفترض ألّا يجري التعذيب في هذه السجون، فلماذا يُنقل المشتبه بهم إلى بلاد أخرى تستخدم وسائل غير مسموحة في أميركا والغرب بحسب القوانين الدولية؟». ويلوم أوباما الذي لم يسمح بتأليف لجنة لمعرفة الحقائق بشأن التعذيب في غوانتانامو والسجون السرية في العالم في عهد بوش الابن، بل «تدخّل ليمنع ملاحقة ممارسي التعذيب قضائياً مما يفتح المجال للقيام بمثل هذه الممارسات في المستقبل».
ويتساءل طبارة في خاتمة كتابه عن سبب ظاهرة الخوف في المجتمع الأميركي التي أدّت إلى التمييز العنصري ضد الهنود الأميركيين والأميركيين السود البشرة، وإلى تجاوز الأعراف في التعامل مع المسلمين المقيمين في أميركا أو حتى حاملي جنسيتها بعد اعتداءات 11 ايلول (سبتمبر) 2001، فيقول إنّ «هذا الخوف الدائم من الخارج وهذه البارانويا يعودان إلى جهل الأميركي العادي لباقي العالم ولحقيقة ما يحدث خارج بلاده». غير أنّه يستدرك أنّ «الأمر لا يعود لهذا العامل فقط»، ويشير إلى أن «أسباب الكراهية (لأميركا) في معظمها طبعاً سببها سياسة أميركا الخارجية (...) هذا كان واضحاً بالنسبة للخارج ولكنه لم يكن كذلك بالنسبة للغالبية الساحقة من الأميركيين». وبالتالي، فإنّ «كل ذلك يجعلنا نستخلص أنّ أميركا، كما عرفها وعاصرها جيلنا خلال عصرها الذهبي في النصف الثاني من القرن العشرين حيث كانت الحريات مصونة قانونياً ودستورياً قد أصبحت من الماضي، وأميركا الجديدة هي أميركا ما بعد القانون التي سنتعايش معها في المستقبل المنظور، لأن العودة إلى دولة القانون ستأخذ سنين عديدة... إذا ما عادت». ولعل من المفيد العودة إلى مقطع أورده طبارة في حاشية في أسفل الصفحة 99 من الكتاب، وهي تلخص الانعطافة في القيم الأميركية وتعامل أميركا مع العالم الذي بدأه الرئيس هاري ترومان الذي أيد تقسيم فلسطين سنة 1947، رغم إصرار وزارة الخارجية الأميركية بقيادة الجنرال جورج مارشال (صاحب خطة مارشال) على عدم اتخاذ هذا الخيار. فقد اختار ترومان تأييد التقسيم بسبب الانتخابات الأميركية الرئاسية لعام 1948، حيث قال لأربعة رؤساء بعثات عربية للأمم المتحدة: «أنا آسف أيها السادة، ولكن عليّ أن أستجيب لمئات الآلاف من المتلهفين لنجاح الصهيونية، وليس لدي مئات الآلاف من العرب بين جمهوري من الناخبين». وقال ترومان الأمر نفسه لوالد الرئيس الرجل جون كينيدي عندما زاره في هذا الصدد وسأله عن اعتراف أميركا بإسرائيل.
بعد أكثر من ستين عاماً على تأسيس دولة إسرائيل، يبدو أن أميركا تأثرت إلى درجة أكبر بطريقة تعامل إسرائيل مع الحريات والسجناء والأسرى، بدلاً من أن يحدث العكس. تجاوزت أميركا ـ حسب طبارة ـ القوانين الدولية والأميركية والأخلاقية والأعراف المتعلقة بالتعذيب والإذلال والاختطاف، وصارت تعتمد الأساليب الإسرائيلية القمعية في هذا المجال، بحجة مكافحة الإرهاب! ويستشهد طبارة بما كتبته صحيفة الـ«غارديان» البريطانية المرموقة بأنّ «الولايات المتحدة هي كمن يمشي في نومه باتجاه دولة بوليسية».
والمؤسف أنّ هذه الدولة العظمى، بالتعاون مع إسرائيل والحلفاء الآخرين المتواطئين مع هذه الممارسات، يدّعون أنّهم يحررون العالم.