القدس | في «ديانة مكة في الجاهلية: كتاب الحُمْس والطُّلْس والحِلّة» (دار الأهليّة ـ عمان)، ينطلق زكريا محمد (1951) من الانقسام الديني في مكة الجاهلية والجزيرة العربية إلى طوائف دينية ثلاث، هي الحُمْس والطُّلْس والحِلّة، لدراسة ديانة العرب قبل الإسلام. يرى الشاعر والروائي والباحث الفلسطيني أنّ هذه الديانة «منظمة تملك أساسها العقلاني والفلسفي، وليست فوضى آلهة وأصنام كما تبدّت لغالبية الباحثين».
الكتاب الأقرب إلى دراسة ميثولوجية ـــ دينية منه إلى التأريخ، هو أوّل كتاب في المكتبة العربية الحديثة، يُخصص لعقائد وطقوس وأساطير طوائف العرب الدينية قبل الإسلام. إنّه استمرار لكتابي زكريا السابقين عن ديانة العرب الجاهلية، وهما «عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية» (2009) الذي أضاء على أُسس هذه الديانة وعلاقتها بديانات المنطقة؛ و«ذات النحيين: الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة» (2010) الذي درس فيه ديانة العرب الجاهلية من خلال الأمثال، باعتبارها رموزاً تُعبّر عن طقوس ميثولوجية.
أما في «كتاب الحُمْس والطُّلْس والحِلّة» الذي يؤسس لوعي جديد بديانة العرب قبل الإسلام، ولفهم أعمق للإسلام، فيقول زكريا: «لقد ظلّ الباحثون يتحدثون عن هبل والعزى، وعن اللات ومناة وذي الحجة الخلصة وغيرها من الآلهة، من دون أن يكون لكل هذا أي علاقة بالحُمْس والطُّلْس والحِلّة. كأنّ هذه المذاهب لا علاقة لها بآلهة العرب، رغم أنها مذاهب دينية بلا جدال». وبناءً عليه فإنه «ليس ثمة ديانة جاهلية من دون هذه الطوائف الثلاث. فهي التجسيد العملي لهذه الديانة. الطوائف الثلاث هي مركز هذه الديانة وتجسيدها. بالتالي، فتجاهلها، أو مسها مساً خفيفاً فقط، لن ينشئ وعياً جديّاً بديانة العرب قبل الإسلام».
وفي ما يتعلق بالإسلام ونشأته، يضيف: «لن نتمكن من فهم الإسلام وبداياته من دون فهم هذه الطوائف. هو قد نشأ بينها، وكانت حياته جدالاً معها اختلافاً واتفاقاً، كما أنّه كان في وسط تنافراتها واختلافاتها. بناءً عليه، فما لم نفهم مذهب الرسول في الجاهلية مثلاً، أي ما لم نعرف الطائفة التي انتمى إليها وانتمت إليها عشيرته الأقربون، فلن نفهم الإسلام. يفترض أنّ هذه الطائفة هي التي نبتت نبتة الإسلام على أرضها».
هكذا يبحث زكريا في المصادر التراثية، ويجادل مسلمات المصادر العربية الحديثة، وبعض أفكار الباحثين الغربيين، ليخلص إلى نقطة حاسمة أنّ النبي محمد كان على مذهب الطائفة الحِلّية، عكس ما أجمعت عليه المصادر العربية بأنّه مثل «عشيرته قريش الذين كانوا على مذهب الحُمْس في الجاهلية، لكن قريش ضمت الطوائف الثلاث، أي كان فيها حُمْس وطُّلْس وحِلّة. أما بنو عبد المطلب (جد النبي) وبنو هاشم، فقد كانوا حِلّة... وهذا يعني أن الإسلام نشأ في بيئة حِلّية، لا حُمْسية، ما يعني أيضاً أن لهذا المذهب على وجه الخصوص تعلقات بالإسلام وبهويته».
بأناةِ صائغِ ذهبٍ، يُفصّل زكريا الطقوس والشعائر الجاهلية التي اتبعتهما الحُمْس والحِلّة، اللتان أخطأ الباحثون حين اعتبروهما حلفين سياسيين. أما طائفة الطُّلْس، فكانت تابعة بشعائرها وطقوسها لإحدى هاتين الطائفتين. مثلاً، كان العرب قبل الإسلام يحجون مرتين في السنة إلى كعبة مكة. الحج الصيفي لطائفة الحُمْس، والشتوي لطائفة الحِلّة. في السنتين الأخيرتين من حياة النبي محمد، عمل الإسلام على المصالحة بين الحُمْس والحِلّة، وتوحيد شعائرهما، وتحديداً شعائر الحج. هكذا، اختزل الإسلام الحج إلى مرّة واحدة في السنة. يشرح زكريا عن طقس «طواف العري» حول الكعبة: «إن الحج لدى الحِلّة هو تمثيل للحظة سقوط آدم وحواء. وفي تلك اللحظة لم يكن الزوجان الإلهيان يملكان ملابس. بالتالي، فتمثيل اللحظة يقتضي أن لا يكون عند الحِلّي ملابس تخصه. لذا فهو يستعير ملابس الطواف استعارة». هذه بعض الطقوس والشعائر التي يُفصّلها الكتاب، ومنها أيضاً «رحلة الشتاء والصيف» التي هي رحلة دينية لا تجارية، و«وأد البنات» المرتبط بطقس ديني جاهلي، لا بأسباب اجتماعية واقتصادية، كما يذهب غالبية الباحثين.
أما عن «الاستشراق» وبحوثه، فيؤكد زكريا محمد أنّه «يصعب على الباحثين الغربيين، أو المستشرقين أن يصلوا إلى فهم معقول لديانة الجاهلية رغم كل جهودهم. قد يتمكنون، بسبب تربيتهم البحثية الصارمة، أن يضعوا التصانيف المنضبطة، لكنهم لن يتمكنوا من العثور على جوهر الديانة الجاهلية». ومن بين الأسباب التي يعددها لهذا القصور الاستشراقي «اقتناعهم الكامل بأنّ القرآن ليس إلا نتاجاً ثانوياً للعهدين القديم والجديد، أي إن الإسلام ذاته مجرد نسخة محرفة لهذين العهدين». يدعو زكريا محمد إلى «دحض الاستشراق القديم والحديث بإنتاج معرفة مضادة لمعرفته بالعصر الجاهلي، أي بإنتاج معرفة حقيقية. يجب أن نكف عن التذمر مما يصنعه الباحثون الغربيون، وأن نكف عن «فضح» دوافعهم غير البريئة. ما نحن بحاجة إليه هو معرفة تتجاوز معرفة هؤلاء الباحثين».