جنود مروان رشماوي (1964) لا ينتظرون أمراً عسكرياً كي يباشروا في القتال. تنتشر أعلامهم الـ 425 في «غاليري صفير ــ زملر» (الكرنتينا ــ بيروت)، مستعدة للمواجهة في معرض الفنان اللبناني الفلسطيني الضخم «بلازون». بيروت قبعة هذا الفنان الاستثنائي. يخفي تحتها مهارات في البحث والتأريخ والتخطيط والتفكيك والتحليل، تحركها رغبته الدائمة في نقد ومساءلة كل ما تجعله المدينة بديهياً. في «طيف» (2006)، شيع رشماوي أبنية بيروت المهددة من خلال المجسم التفصيلي لـ «عمارة يعقوبيان» التي هدمت عام 2006، مستحضراً التبدلات العمرانية والاقتصادية والاجتماعية التي تلاحق بيروت. بدا خياره أكثر حدّة في «بيروت كاوتشوك» (2004 ــ 2006)، تلك الخريطة المسطحة والسوداء للمدينة، رامياً تشكلاتها ومناطقها ما بعد الحرب الأهلية، تحت أقدام الزائرين.
لدى كل محاولة لتفكيك بيروت واستكشاف تناقضاتها، يذهب رشماوي نحو تجريب أسلوبي لعناصر ومواد متفاوتة كالكاوتشوك والإسمنت والزجاج والحديد توازي خليط بيروت الشكلي. نوع من المشاكسة طبع علاقته مع ما يمكن أن نطلق عليه «سحر» بيروت. كأنه يرفض الانسياق وراء بديهية هذه الجاذبية وجهوزيتها. تتضح هذه العلاقة أكثر في تجهيزه المكثف الجديد «بلازون» (لغة الفروسية) أو «من بيروت إلى العالم» الذي يستمر حتى السابع من أيار (مايو) المقبل. يستعير رشماوي لغة الفروسية لتشريح سحر بيروت تاريخياً واجتماعياً وجغرافياً وديموغرافياً وثقافياً، ليخرج العمل على شكل لعبة فانتازية تستدرج المتفرج إلى خطوط تماس جديدة.
لعبة فانتازية عن خطوط تماس جديدة ومعابر افتراضية بين «الكولا» و«سبينيس»، و«حبس الرمل»...
ينطلق رشماوي من التقسيم الرسمي المسجل لبيروت الإدارية الذي يضم 59 منطقة، ثم يوزّعها وفق خمسة تصنيفات تستند إلى جذور تسمية المنطقة ومعالمها: العائلات، والجغرافية، والطائفة، والعمارة، والطبيعة. في المعرض يطبق مبادئ الفروسية، مانحاً صفة القادة إلى المناطق، التي تعلق بشكل دروع معدنية على الجدار. وقد حفر على كل درع واحد من الرموز التالية التي ينتمي إليها: الشجرة والعمارة والكرة الأرضية وشجرة العائلة وكتاب الدين، مرفقاً برمز في الأسفل يصغره حجماً يمثل المنطقة التي يستطيع هذا القائد التحاور معها عند حدوث إشكالات. هكذا يملك كل قائد مجموعة من الأعلام في الساحة، هي الأحياء والزوايا التابعة له التي تحمل تسميات شفهية متداولة في بيروت، تحدد ألوانها (الأزرق والأبيض والبنفسجي والأحمر والأصفر) جذور تسميتها. ورغم اعتماده على التقسيم الرسمي للمناطق، إلا أنّ رشماوي يقترح تخطيطاً مدينياً جديداً لبيروت بوصفها بقعة مفتوحة على الحروب لديها قابلية لاحتواء خطوط تماس جديدة. لا تغيب هنا الفترة التي بدأ فيها رشماوي البحث في مشروعه وتأثيراتها اليوم. كان ذلك عام 2006 الذي شكل بداية فترة سياسية جديدة وأوجه صراع أخرى. وضع قلق المدينة حينها السكان في جهوزية تامة لأي حرب. هذا ما دفعه إلى التساؤل حول الفارق الذي يميز الناس عن العسكر. وظف قلق المدينة لتنظيمها مجدداً، جاعلاً منها ساحة قتال فانتازية مليئة بالأعلام والدروع. يتحول الزائر في المعرض إلى جندي، يقطع خطوط تماس ومعابر افتراضية بين «الكولا» و«سبينيس»، و«حبس الرمل»، و«البربير» و«الفاكهاني»، و«قصقص» و«نزلة السفير» ثم «مونو» و«سبيرز» و«المنارة» و«كليمنصو» و«حي السريان» و«طريق الشام»... هذه فكرة مطروحة في التجهيز التفاعلي. أن يجد المتفرج نفسه مجرّداً تحت أعلام تحمل أسماء وصوراً، أمام مساحة فارغة، قابلة لإسقاطات الزائر وتحليله ومساءلته. خلف الأعلام الملونة، تطالعنا طبقات عدة من تاريخ بيروت وقصصها. يستند رشماوي بذلك إلى الذاكرة الجماعية للأسماء، مانحاً اياها ترميزات ودلالات أخرى. إنها رموز الحرب القادمة. هكذا تستثير الأعلام ذاكرة طويلة وأحداثاً جعلت من بيروت مكاناً قابلاً للتوسع دائماً، وقبلة للاجئين، تاركة مساحة لتناقضاتها وتقسيماتها الثقافية والطبقية والطائفية والاجتماعية. وأمام كل التجاذبات اليومية، والتغيرات النارية التي تتربص ببيروت وبسكانها وبالعالم، يؤرشف العمل بصرياً معالم بيروت المعمارية وأيقوناتها. من خلال الصور والرسومات التي نقشت على الاعلام، والتي ميزها التصميم الغرافيكي المينيمالي لترميزات الأمكنة والوجوه والعائلات والمؤسسات الدينية (تصميم غرافيكي: مايا الشامي، وموديل محمود الصافي)، يحفظ "بلازون" قصصاً وعناصر وأحداثاً جعلت بيروت ما هي عليه اليوم. أبرزها الوجوه التي برزت فيها مثل الجنرال سبيرز وكليمنصو وعبد القادر الجزائري، ومؤسساتها الدينية، وعائلاتها مثل سرسق وسلام، وأمكنتها كملاهي الروشة وبرج المر التي تستثير بدورها ذاكرة شفوية متناقلة أخرى. في "بلازون"، لم يكن رشماوي يفكك سوى مكونات بيروت وعناصر "سحرها"، التي صارت خريطة لحروبنا الآتية.

«بلازون» لمروان رشماوي: حتى 7 أيار (مايو) ــ في "غاليري صفير زملر" (الكرنتينا ــ بيروت). للاستعلام: 01/566550