واحداً تلو الآخر، يتساقط المبدعون السوريون. كأنّهم ينهارون فجأةً، تحت وطأة الحزن على بلد سابح بالدماء. ما يزيد النبأ الفاجع مرارةً أنّ السينمائي والتشكيلي والشاعر الدمشقي لم يُدفَن في مدينته الأثيرة. دمشقه التي صوّرها كثيراً، مصطاداً بعض جوانبها المظلمة، وكثيراً من وجوهها البهيّة. من الآثار الجانبيّة المريعة للحرب السوريّة، ألا يُوارَى المثقف السوريّ تحت تراب بلاده.
نبيل المالح لا يشبه إلا نفسه. التمعّن في نصف قرن سينمائي من حياته الحافلة، يستخلص فرادةً واختلافاً في آلية التفكير والبحث والأفلمة. مشروعه الكبير في الفيلم الطويل والقصير والوثائقي، لم يعرف الكلل أو الركون. لا بدّ من التنوّع والتجريب، لاستكشاف تيمات تلامس الفرد، وجغرافيا تظهر المزيد من دمشق وما حولها. أسلوبية خاصّة طوّرها عبر السنوات، ليصنع ختماً خاصّاً لعدسة لا تشبه السائد ولا تقلّد الآخر. «كان من بين قلّة من المخرجين، صنعوا هوية ما عُرِفَ بالسينما السورية»، عبارة وردت كثيراً في أخبار نعي الرجل. بضع نقاط قد تسهّل الاقتراب من تميّز الراحل وخصوصيته:
إثر دراسة السينما في براغ كأوّل مخرج سوري يتعلّم المهنة خارج البلاد، عاد نبيل المالح إلى دمشق. بدأ العمل مع المؤسسة العامّة للسينما على أوّل فيلم روائي سوري طويل بعنوان «الفهد»، عن رواية لحيدر حيدر بالاسم نفسه. حكاية الفلاح البسيط الذي يتمرّد على الإقطاع والاستبداد لم تعجب وزارة الداخليّة، فلم يرَ الشريط النور حتى عام 1972، محققاً نجاحاً مدوياً والعديد من الجوائز. كذلك، يُحسَب للمالح أول فيلم ديجيتال روائي طويل في سوريا، هو «غراميات نجلا» (2001)، الذي نال فضية «مهرجان القاهرة» التلفزيوني وذهبيتي أحسن سيناريو وأحسن ممثلة لرنا الأبيض. يُضاف إلى ذلك عناوين وثائقيّة مبكّرة، مثل «إكليل الشوك» (1969) والشهير «نابالم» (1970)...
منذ «الفهد»، انحاز نبيل المالح إلى حريّة الفرد وكرامة النفس، داعياً إلى مقاومة المحتل والمستبد. المقاوم الفلسطيني في ثلاثيّة «رجال تحت الشمس» التي أخرج أحد أجزائها، يتقاطع مع ذلك الفلاح الذي لعبه أديب قدّورة. بشكل أو بآخر، سيتكرّر ذلك في «بقايا صور» (1973) و«السيّد التقدمي» (1974)، وصولاً إلى تحفته «الكومبارس» (1993). في غرفة ضيقة، توهّج بسام كوسا وسمر سامي ضدّ العسف والقمع. صرخا من أجل حريّة الفرد. لا شكّ أنّ تجربة المالح الشخصيّة عزّزت عنده هذا التوجّه البيّن، الذي ختمه بالوقوف إلى جانب المنتفضين في بلده منذ آذار (مارس) 2011. لقد تلقّى صفعة من عسكريّ في متنزّه عام أيام الطفولة، فكره القبضة الأمنية إلى الأبد. عمله في منظمة الأونيسكو، عرّفه أكثر على حقوق الإنسان ومعنى المواطنة. أسفاره العديدة إلى أميركا وأوروبا، مكّنته من «استخدام الحياة» بشكل عملي. هكذا، صار المالح حالماً بكثير من المفاهيم الهشّة في أرض «الكريستال المقدّس».
التصق اسم المالح بأكثر من 150 عنواناً. كان يعمل بلا انقطاع، متلوّناً بين التصوير والسيناريو والشعر والرسم. مشاريع كثيرة لم ترَ النور، منها «البيانو» و«فيديو كليب»، ووثائقيات عن جرائم الشرف وحقوق المرأة وتاريخ دمشق. اللافت في طرح المالح هو الذكاء في الجمع بين القيمة الفنيّة والجذب الشعبي، بين البلاغة والحرفة والبزنس والراهن الحار. الكاتب والصحافي إبراهيم الجبين روى تجربةً لافتةً مع المالح في «العرب» اللندنيّة. صاحب «عالشام.. عالشام» لم يتردد في العمل على وثائقي عن أسامة بن لادن عندما كان يعيش في الساحل السوري. المالح والجبين قابلا أهل والدة أسامة وابنته بالتبنّي، ليخرجا بمادة ساخنة قادرة على اكتساح العالم بعد تفجيرات برجي التجارة. من سوء الحظ، قام الأمن السوري بمصادرة الشريط قبل ولادته. ببساطة، يمكن التنبّؤ بشطارة المالح كرجل صناعة لا يساوم على الجودة، لو شهدت سوريا مشهداً سينمائياً حقيقياً مع شبّاك للتذاكر.
لم يفارق المالح شباب السينما طوال حياته. حرص على نقل المعرفة والخبرة إلى الآتين بعده. درّس في تكساس وكاليفورنيا، وظلّ مواظباً على نشر فيديوهات تعليمية على مدوّنته حتى النهاية. ساهم في تطوير عدد من المشاريع، ولم يمتنع عن مد يد العون لطالبي المشورة. مشاركته في تأسيس «مهرجان السينما البديلة» مطلع السبعينيات دليل على تشبّثه بالانفتاح، وعدم الانقياد خلف المفاهيم الأحادية والأفكار الجاهزة.