منذ عنوان باكورتها «أنا الأميرة، أنا الأَمَة» (دار النهضة)، تدعونا عبير خليفة إلى ممارسة لغوية تبدو أقدم مما نقرأه في أغلب التجارب الراهنة. ملاحظةٌ لا تعني أن هذه الممارسة تجعل شعرها أفضل أو أكثر جودة، بل تعني أنه مكتوبٌ على هامش اللغة الجاهزة لتصبح شعراً بالقليل من الحِيَل والألاعيب التي تُبهر القارئ، وتصرف انتباهه عن المعنى. كأن ما تكتبه الشاعرة اللبنانية الشابة منجزٌ باللحم الحي أو بالمواد الخام للمخيلة.
الإبهار ليس صفة سيئة دوماً، ولذلك فإن ضآلته هنا تقلل شعرية بعض النصوص، وتخلق تفاوتاً في الجودة داخل القصيدة الواحدة أيضاً. رغم ذلك، تفوز الشاعرة بتعاطف القارئ الذي سيكون عليه أن يكتفي بالمقاطع والاستعارات التي تلمع هنا وهناك، ويقتنع بأن الشعر ليس مطلوباً في كل كلمة وكل سطر. وصفةٌ مثل هذه ستزيد من تقديره لهذه اللغة التي فيها شيءٌ من التقشف الصوفي، وشيءٌ من مناخات العزلة، وشيءٌ من البراعة في جعل كل ذلك مزاجاً وأسلوباً. ما هو جيد يتجاور مع ما هو عادي أو أقل جودة. في الحالتين، يبدو ذلك طبيعياً بالنسبة إلى ديوان أول يتضمن قصائد البدايات العائدة إلى أزمنة مختلفة ومتباعدة. في الحالتين، نجد هذه اللغة التي تستأذننا بمذاقٍ قديم ومحبَّب: «هوى كتابُ حياتكَ بين يديّ/ وطويلاً قرأتُ فيه/ تورّطتُ حتى تمنيتُ تبادل الأقدار/ وكلما اقتربت نهايةٌ سعيدةٌ درأتُها وبحثتُ عن أخرى». الآخر/ المخاطَب حاضر في النصوص التي تخضع لتجفيف العاطفة وتعزيز التأمل، وتحافظ على جزالة الكلمات، بينما يتنامى السرد والاستطراد، ولا تكترث الشاعرة لتقنيات الحذف والاقتصاد. ننتبه إلى الاستخدام الغريب والمفاجئ لمفردة «أحترمُ» في هذا السطر: «أحترمُ صوتكَ، لكني مللتهُ حفظتهُ أعرفهُ وأريد أن أجهله». سطورٌ مماثلة تنتظرنا في قصائد أخرى، فنقرأ «ها قد حطمتُ تمثالكَ والتحقتُ بركب الخونة»، و«أسدلُ الستارة/ أرسلُ الغيم ليلهوَ بالغروب/ وأبدأُ بخيانتك بصدق»، و«أرمي الظلام عليّ/ كي لا يخجل الضوء من التحدث إليّ مجدداً»، و«أنّى لي أن أغفر للسعادة طرقها الملتوية». هناك تصعيدٌ ذكي لموضوعات دارجة مثل الحب والحزن والعزلة، حيث تنجح كلمة واحدة في إنارة سطر كامل وتكثير شعريته.
لا تتورط الشاعرة في مناحاتٍ ذاتية مائعة. هناك شذراتٌ شخصية تُعاد كتابتها، ولكن ذلك يحدث بقوة التأمل والتفلسف وليس بالاستسلام للنفوذ السلبي للوجدان المنكسر والساذج. قد يُكتب ذلك على سبيل الحكمة المأثورة، كما في «الفراشة بين ضوءين تحرقها حيرتها لا الضوء»، و«قبل أن تسير تأكد أن الصُّدَف متمركزة في مكانها».
التماسك والجزالة صفتان ملازمتان للغة الديوان، ولكن ذلك لا يمنع تسرّب الأسى الذاتي الذي يصلح عادةً ليكون إحدى خلاصات الشعر أيضاً.
«الفحولة» الموجودة في هذه اللغة ترقّ في طيات صورٍ واستعارات مصنوعة من العناصر ذاتها. هكذا، نقرأ صوراً سيّالة وقريبة أكثر في جملٍ مثل: «ما أحزنَ غيري أبكاني»، و«غيَّرتُ عطري، نسيتُكْ».، حيث تستطيع الشاعرة الاستماع إلى «الماضي موسيقاهُ تعلو، من جديد، وتُعزفْ»، وتقول: «لو أن الجدائل انعقدت على غير الحب لكان فكّها أسهل».