لماذا عُرقلت العلمانية في سوريا بعد الاستقلال؟ لماذا ضمرت الديموقراطية في أرجائها مع أنّ النخب شبه الليبرالية كانت موجودة طوال أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته؟ لماذا فشل حكم القلّة في تأسيس دولة عصرية؟ لماذا فشلت الأحزاب العلمانية في اختراق المدن السورية التقليدية كدمشق وحلب وحمص؟ حاول الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر في «أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سوريّة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـــ 2013) الإجابة عن الأسئلة المطروحة، وعمل على برهنة أنّ مثلث ملاك الأراضي والتجار ورجال الدين، عرقل العلمانية في سوريا بسبب الطابع المحافظ الذي مثله هذا الثالوث التقليدي. ينهض العمل على فكرة أساسية قوامها أنّ الطبقة التقليدية في دمشق حالت دون تطور سوريا بعد الاستقلال (1946) إلى دولة ديموقراطية حديثة. ورغم أنّ الكاتب يأخذ في الاعتبار مجمل العوامل الاجتماعية والاقتصادية المؤدية إلى عرقلة الدولة العلمانية في بلد مفتاحي ومفصلي كسوريا، إلا أنه يكثف دراسته في رصد دور الأعيان، وهؤلاء طغمة تقليدية ارتبطوا بعلاقات أبوية متوارثة.
يرى صاحب «حركة الوطنية الفلسطينية» أنّ سوريا تنتمي إلى أنظمة التسلط ذات القاعدة الشعبية الواسعة. وهذا النموذج ظهر عندها في أوائل خمسينيات القرن العشرين إثر زوال الانتداب الفرنسي. وبعد تحليل ماهية الثالوث التقليدي وتركيبته ومصالحه مع السلطة السياسية التي ارتبطت معه بوشائج معقدة، منعت قيام نظام علماني، يركز الكاتب على ذاك «الاستعصاء» البنيوي الذي منع المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص من تلقي مفاهيم الحداثة السياسية.
في سبيل التحقق من الإشكاليات والفرضيات المطروحة، يقدم لنا إضاءات هامة، ربما بدت جديدة، فماذا يقول في هذا المجال؟ يتوصل إلى جملة من الحقائق الأساسية، أولها، فشل فكرة القومية العربية ذات السمات العلمانية في اختراق المدن بسبب ممانعة الأعيان للمشروع القومي/ الجنيني الذي طالب به طاهر الجزائري وعبد الرحمن الشهبندر (مؤسس «حزب الشعب» أول حزب علماني في سوريا) ورفيق العظم وشكري العسلي آنذاك. ثانيها، خضوع دمشق للثالوث التاريخي ببنيته الحامية للسلوك التقليدي، والعازلة لأي نمط تحرري؛ ثالثها، السد المنيع الذي أقامته بعض المدن السورية الكبرى في وجه الحداثة والعصرنة على نقيض ما حدث في الإسكندرية ويافا وحيفا وبيروت وإزمير، أي تلك المدن المتوسطة الكوسموبوليتية «التي لم تكن أسيرة نقابات الأشراف وشبكات الأعيان، بل كانت تضم طبقة تجارية ذات شأن، ومجموعات إثنية ارتبط سلوكها بأوروبا».
في موازاة هذه الوقائع التاريخية، يخرج الكاتب بعد إجراء المقارنات بين دمشق وبعض المدن العربية المفتوحة، بخلاصات مهمة، وخصوصاً حين يعاين كيفية تعامل «حزب البعث»، وهو حزب الطبقة الوسطى الريفية مع ثالوث الأعيان، فسعى إلى مهادنة زعماء العاصمة وتجارها ورجال دينها.
ثمة نقطة أخرى يبرهن عليها صاحب «الدين والدهماء والدم: استعصاء الحداثة في العالم العربي»: الارتباط العضوي والوظيفي بين الأعيان وجماعة الإخوان المسلمين التي تصدت للبعث والشيوعيين والعلمانيين بهدف مقاومة النظام الجديد وإسقاطه من أجل اكتساب السياسة والرئاسة والمال.
تحت عنوان فرعي هو «أسلمة البعث»، يكشف أبو فخر عن حال «التطبيع» إذا جاز التعبير بين الطبقة الحاكمة والأعيان، فماذا فعل الحزب العلماني؟ أدار ظهره للعلمانيين والتقدميين والديموقراطيين بعد أزمة 1979ــ 1982 وأقفل بوابة الحرية السياسية أمامهم إلّا في نطاق «الجبهة الوطنية التقدمية» وفتحها للشيخ أحمد كفتارو وللقبيسيات. ويذكر هنا أنّ القبيسيات حركة إسلامية أسستها الشيخة منيرة القبيسي كانت في بدايتها قريبة من الشيخ أحمد كفتارو، واستطاعت اختراق العائلات الدمشقية والحلبية، واستندت إلى الدروس المنزلية لنشر دعوتها. وتشير مصادر إلى أنّ هناك 40 مدرسة تابعة للحركة. واللافت أنّ الأخوات القبيسيات لا تضمّ في صفوفها سوى الإناث، ولم تنتج خطاباً يعنى بشؤون المرأة، بل اقتربت من النمط الصوفي ومن بعض السلوكيات المرتبطة بالطريقة النقشبندية (نحيل هنا على كتاب «الإسلام النائم: التصوف في بلاد الشام»، «مركز المسبار للدراسات»).
عبر إرساء الإسلام الشعبي ودعمه، حاول النظام التصدي للإسلاميين المتشددين، من ضمنهم الإخوان الذين دخلوا في دائرة من العنف معه بلغت ذروتها عام 1982. قامت الجماعة بتشبيك علاقاتها مع الفئات التقليدية الممانعة للحداثة السياسية والعلمانية. وإذ يحذر أبو فخر من تسليم إخوان سوريا راية التحول التي يعتبرها كارثة بعينها، يخلص إلى أنّ ادعاءاتهم بشأن الدولة المدنية تحتاج إلى برهان. التاريخ القريب لا يبشر بذلك وعداؤهم العقيدي التقليدي للديموقراطية يتناقض مع خطابهم.
لا تنحصر قراءة أبو فخر في تعقّب الأسباب التي عرقلت تدرج سوريا نحو العلمانية، بل يضعنا في قلب الانتفاضة السورية. هنا نجده يسعى إلى تفكيك البنى المجتمعية التي قادت عملية التثوير، فهي عنده تقليدية في مجملها ووافدة من المناطق الريفية/ الطرفية، علماً أنّها شكلت القاعدة الشعبية لـ«حزب البعث». يسلط المؤلف الضوء على بعض العوامل الاقتصادية المسببة للانتفاضة السورية، غير أنّه لا يوسع التحليل في هذا المجال، وخصوصاً أن التفاوت التنموي الكبير بين المناطق الطرفية والمراكز، أسهم في تأجيج الاحتقان الشعبي، ما يدفع المراقب إلى التساؤل عن سبب تأخّر المدينتين الكبريين دمشق وحلب عن الالتحاق بالحراك. قد يساعدنا كتاب محمد جمال باروت «العقد الأخير في تاريخ سورية _ جدلية الجمود والإصلاح» على فهم وتدارك المفصل الاقتصادي الذي لم يدرسه أبو فخر بالشكل المطلوب، علماً بأنه لم يتوان عن نقد السياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الدولة.
ومع تأكيد الكاتب أنّ الهوية المدنية كانت جزءاً من تركيبة الحراك السوري إبان الحقبة الاحتجاجية السلمية، يلحظ أن النظام تواجهه بنى طائفية وقبلية وعشائرية «وعمليات الاحتجاج اليوم لا تتخذ شكل الاحتجاج السياسي والاجتماعي الديموقراطي الشامل، بل شكل الاحتجاجات ذات الطابع السلفي أو الأصولي». فلماذا انزوت القوى الإصلاحية واختفت التيارات الليبرالية عن المشهد؟ يرى أبو فخر أنّ «الضعف المزمن» الذي أصاب هذه القوى أدى إلى تراجعها، محذّراً من غياب المشروع الإصلاحي لأنّه سيؤدي إلى انتصار السلفيين والإسلاميين، وهؤلاء يستمدون قوتهم من الشرائح الشعبية المتدينة والتقليدية.
في القسم الأخير، يفند أبو فخر مزاعم الإسلاميين (الإخوان في سوريا ومصر وحركة «النهضة» في تونس) حول الديموقراطية والدولة المدنية ويتساءل عن سبب غياب فلسطين عن خطابهم.
كان بمقدور أبو فخر توسيع دراسته، وخصوصاً في النقطة المتعلقة بمناهضة الأعيان للعلمانية في الفترة الزمنية التي غطاها، ولو حصل ذلك، لأمكنه توفير مزيدٍ من البراهين التي تكشف عن الصراع بين الثالوث التقليدي والحداثة السياسية. وكان عليه تتبع مواقف الرأسماليين الجدد من الحراك الجاري، لكنه لم يفعل.