قبل نحو ثلاثة أسابيع، كرّم ملتقى «الرواق» في دبي، نبيل المالح (1936- 2016). كانت الصورة التي شاهدنا على الموقع الالكتروني للملتقى تثير الشجن والأسى، فقد أتى المخرج السوري المخضرم على كرسي متحرّك (!). لن يصدّق من يعرف حيوية صاحب «الكومبارس» أن يشاهده على هذا النحو المؤلم. في شباط (فبراير) قبل خمس سنوات، خطف الموت المخرج عمر أميرلاي، وها هو في الشهر نفسه يضع نبيل المالح في «سجل اختفاء» آخر، قبل أن يجفّ التراب على قبر نذير نبعة الذي غاب قبل يومين. يا لها من مقبرة مفتوحة للسوريين!
الآن، ونحن نستعيد شريط السينما السورية، لن تستقيم نظرتنا النقدية إلى هذه السينما، من دون أن نضع أفلام نبيل المالح في الواجهة، بالتوازي مع سيرته الشخصية الصاخبة.
هكذا توجه الابن المشاكس لعائلة بورجوازية دمشقية إلى براغ، مطلع ستينيات القرن المنصرم، لدراسة الفيزياء النووية، لكن مصادفة عابرة حرفت طريقه، بعد سنتين من الدراسة، نحو السينما: «كنت مفلساً، حين اقترح عليّ أحد الأصدقاء أن نعمل كومبارساً في فيلم تشيكي. في موقع التصوير، اكتشفت أن السينما هي المهنة التي أبحث عنها». حالما أنهى دراسة السينما في براغ، عاد إلى دمشق، ليجد نفسه رهن الاعتقال بسبب تقرير أمني. بعد خروجه من السجن، تشرّد سنوات في أوروبا، إلى أن عمل في منظمة اليونيسكو بمساعدة صديقه شريف الخزندار، وأصدرا كتاباً مشتركاً بعنوان «سرّ المسرح». في سنة 1968، أتى دمشق في زيارة عابرة قبل هجرته إلى كندا، لكن مصادفة أخرى أبقته في البلاد. كانت «المؤسسة العامة للسينما» في بداية تأسيسها، ومديرها حينذاك موفق الخاني يبحث عن مخرج سينمائي لتحقيق فيلم عن النكسة، فقرّر البقاء في البلد، إلى أن وقعت بين يديه رواية «الفهد» لحيدر حيدر. لكن الفيلم واجه عثرات كثيرة، لم تكن في الحسبان. قبل تصويره بأسبوع واحد، جاء «فرمان» من وزارة الداخلية بمنع الفيلم بذريعة أنه يشجّع التمرّد الفردي لقاطع طريق، ويسيء إلى سلك الشرطة. كانت حكاية الفيلم مستقاة من قصة حقيقية عن فلاح يدعى «بو علي شاهين»، تمرّد على الإقطاع، فطارده رجال الدرك في الجبال، وشُنق في ساحة قريته ليكون عبرة للآخرين.
بصمته الحقيقية تجسدت على نحوٍ جمالي خلّاق في فيلم «كومبارس»
هكذا طويت صفحة الفيلم مؤقتاً، إلى أن تغيّرت الأحوال السياسة في سوريا، مطلع السبعينيات، وسُمح بتصوير «الفهد». حقق الشريط نجاحاً ساحقاً، وصار بين أكثر الأفلام السورية شعبيةً. في أحد مشاهد الفيلم، تظهر الممثلة إغراء عارية، لكن هذه اللقطة الجريئة، غير المسبوقة في تاريخ السينما السورية، ستُحذف بعد... خمس سنوات على إنجاز الفيلم!
في «بقايا صور» (1973)، اقتبس المالح رواية حنا مينة عن سيناريو كتبه بمشاركة سمير ذكرى، ومحمد علي فروح. في الرواية الأصلية، تتفوّق السيرية على ما عداها، لكن السيناريو سيعتني بالبيئة الريفية ومناخاتها، مطلع القرن العشرين، حين كان فقر الفلاحين يمشي على قدمين. يتناول الشريط حياة عائلة ريفية بائسة تجبرها ظروف العيش الصعبة على الطواف والهجرة بحثاً عن حياة أفضل. العائلة المكوّنة من أب وأم وثلاثة أولاد لم تعرف للراحة أو الاستقرار طعماً. لكنها فجأة تجد نفسها أسيرة لسطوة رموز الإقطاع وعنف السلطة، مما يحدو بعائلها إلى التمرد بحثاً عن العدالة، فيقف وحيداً أعزل معترضاً لما يراه من واقع فاسد وبائس ويسقط منذ المواجهة الأولى. لكن احد أبنائه لن يتوانى عن أخذ زمام المبادرة ليحمل عن والده أمنيات الظروف القاسية وغير المنصفة.
كاميرا ذكية في التعبير عن سحر الطبيعة وبؤس البشر، وصوغ جملة بصرية أخّاذة، تمكّنت من نسف الوصف الفائض في الرواية لمصلحة الصورة المشبعة من الداخل، وبناء مشهدية مبهرة، في رؤية فكرية غير محايدة. على أن بصمته الحقيقية تجسدت على نحوٍ جمالي خلّاق في فيلم «كومبارس» (1993). فهذا فيلم سوري يفترق عن سواه باشتباكه مع واقع راهن، وأسئلة مضمرة عن الحريّة الفردية، وإذا به يبتعد مسافة طويلة عن أفلام السيرة الذاتية التي وسمت السينما السورية خلال العقدين المنصرمين. فيلم عن عاشقين خائفين في عالم أمني، خانق وضيّق، يضغط على الأرواح. عاشقان مطحونان في غرفة مغلقة، لكن همومهما ستتسرّب تدريجاً إلى الفضاء الخارجي كصورة عن تراكم أشكال القمع والاستلاب والعبودية في مدينة تنبذ أي صيغة للتمرّد. فأنت مجرد كومبارس على الخشبة، وفي الشارع، وإلا ستتعرّض لصفعة من رجل أمن تعيدك إلى مربعك الضيّق بكامل رعبك. بإمكانك أن تحوز بطولة مطلقة ولكن بين الجدران الكتيمة فقط، وما زحام الشوارع وحيويتها إلا شرارة مضمرة، لكنها قيد الاشتعال، في أي لحظة. لم يركن نبيل المالح إلى سردية بصرية واحدة، فقد كان معجوناً بالمغامرة والشغف لارتياد مناطق بصرية مفارقة ومبتكرة من موقع الاختلاف لا التراكم. 12 فيلماً روائياً، وعشرات الأفلام القصيرة التجريبية والوثائقية، وضعته في مكانة مرموقة لجهة البلاغة البصرية، وزاوية النظر، فهو ما انفك يرتحل من أسلوبية إلى أخرى في بحثٍ جريء عن مناطق سينمائية بديلة، إذ لطالما شبّه نفسه بالمحارب الذي يخوض معاركه على كل الجبهات، ذلك أن مشاريعه المؤجّلة أكثر من مشاريعه التي أنجزها طوال نصف قرن من العراك والسجالات الساخنة، رافضاً أن يكون مجرّد حكواتي، فالسينما كما كان يراها تكمن في اقتحام مناطق العتمة في المجتمع، وفحص طبقات القاع المهملة. هكذا أنجز مجموعة من الأفلام القصيرة، في سنواته الأخيرة معبّراً خلالها عن تحولات المجتمع السوري، مثل "عالشام..عالشام" عن هجرة الريفيين إلى المدينة، وفيلم "الكريستال المقدّس" حيث تتجوّل الكاميرا في رقعة صغيرة من دمشق القديمة تمتد من البوابة الرومانية إلى الباب الشرقي: "في هذه الجغرافيا، ستجد أربعة جوامع، وعشر كنائس، وأربعة مساجد يهودية. هذه صورة فريدة لدمشق، تؤكد استثنائية هذه المدينة وروحها المنفتحة على كل الطوائف والإثنيات» كما قال. رحل نبيل المالح بعيداً عن الشام طاوياً أشرعته في المنفى، فيما بقيت عشرات المشاريع المؤجلة في أدراجه.