ليست هناك مدينة مجنونة بقدر بيروت. ليس هناك شعب يتقن فن التدمير الذاتي بقدر أهل بيروت، تلك المدينة التي سرقت من فؤاد عليوان جزءاً أساسياً من ذاكرته ليحاول اليوم استرجاع ما فقده فيها ذات حرب. «عصفوري» هو باكورة فؤاد عليوان الروائية الطويلة، وتغريدته الأولى خارج فضائه الذي عج بالشرائط الوثائقية والروائية القصيرة التي شكّلت هويته السينمائية الخاصة من خلال أفلام أنجزها بعد عودته من غربته في كاليفورنيا. لكن هل كان عليوان فعلاً جاهزاً لخوض هذه التجربة؟ هل استطاع بلورة أفكاره الكثيرة عن المدينة وناسها في أطر واضحة ومحددة قبل أن ينقلها الى شريط سينمائي؟
«عصفوري» الذي عرض ضمن «أيام بيروت السينمائية» يشي بالكثير مما يدور في خلد عليوان. يبدو ناقماً على ناسها بقدر حكامها. نراه يقدم محاكمة أخلاقية لبيّاعي التاريخ والسماسرة، والتافهين واليائسين، ولكل الجنون الذي يجعل لبنان «عصفورية» يصعب فهمها على من لم يدرك عقلية شعبه ولغته ورموزه. لكن عليوان نفسه يعاني من عدم قدرته على استيعاب كل تلك التناقضات. تأتي أفكاره مبعثرة وفوضوية تماماً كأحداث بيروت التي يتحدث الشريط عنها في حقبات ثلاث: بداية الحرب في السبعينيات، منتصف الحرب ومرحلة الاجتياح الإسرائيلي، ومرحلة اعادة الإعمار.
يتحدث الشريط عن الشاب كريم (وسام فارس) الذي يعود من الغربة بعد 20 عاماً ويقرر استكمال مشروع ترميم بناية أبي عفيف حيث تربى ورسم ذكريات طفولته. وهي إحدى الأبنية القديمة في منطقة الصنايع، تشكّل محور قصته. هي الشاهدة على تحولات المدينة والتهجير منها واليها، ثم حقبة «تدمير الهوية» وسرقة أملاك الناس بحجة اعادة الإعمار. البناية نفسها ستكون شاهدة على علاقته المجنونة بمايا (زلفا سورا) التي تناضل على طريقتها ضد طمس هوية بيروت الحقيقية تحت الأبراج التجارية. وليست سرقة الأبنية وتغييرها القضية الوحيدة في الشريط، بل يقدم تحليلاً عميقاً للشخصية اللبنانية وما يشوبها من انفصام وعناد وتهور وخيانة في مقابل النوستالجيا الى الأماكن، والتعلق بالوطن والقيم والذاكرة.
استطاع عليوان أن يقدم نجمين جديدين (وسام وزلفا) برعا أمام نجوم أمثال مجدي مشموشي، وليد العلايلي وعمر الشماع ويارا أبو حيدر وكارولين حاتم وغيرهم. لكن مشكلة الشريط ليست في ممثليه ولا تصويره بل في الحبكة الرئيسية بأزمنتها الثلاثة. يُدخل عليوان كماً هائلاً من الاحداث العرضية غير المبررة في سياق الحبكة الرئيسية، فيشعر المشاهد بالفوضى التي تسكن مخيلة عليوان ونظرته الى بيروت، ويبدو الفيلم فسيفساء من الاحداث والمواقف المتكدسة المحشوة في غير سياقها (منها مثالاً إدخال عملية الـ «ويمبي» من دون تسميتها في أحداث الفيلم). لم يتقن عليوان التمييز بين الحقبات الزمنية التي اختارها، لا على صعيد التصوير ولا الأزياء ولا المكياج فضلاً عن هفوات صغيرة في ظهور أمور في غير زمانها.
لكن يحسب لصاحب «شوق مريض لوطن مريض» أنّه قدم فيلماً لبنانياً بالكامل بهمة المنتجة المغامرة روزي عبده وشركة «360» التي حازت امتياز «دولبي» في الشرق الأوسط ما وفّر كلفة السفر لتسجيل الصوت في استوديوات أوروبية. خطوة «عصفوري» هذه من شأنها التأسيس لصناعة سينمائية محلية. يبقى أنّ «عصفوري» سينتقل الى العرض التجاري ابتداءً من 23 أيار (مايو)، فهل سيكسب إعجاب جمهور «صعب» كما وصفه عليوان نفسه؟



«عصفوري»: بدءاً من 31 أيار (مايو) في الصالات اللبنانية