بعد ستة عقود على طبعته الأولى عن دار «المكشوف»، يمكن اعتبار الطبعة الثالثة (الساقي ــ 2013) من كتاب رئيف خوري (1913ــــ 1967) «الفكر العربي الحديث، أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسيّ والاجتماعي» في هذا الظرف بالذات، نوعاً من الإحالة الذهنية للقارئ العربي الى واقع الثورات العربية الراهنة، لجهة الحاجة الملحة لدى كثيرين الى مقاربة تسوّغ لهم فهم الجذور الأصلية في الاجتماع والسياسة للحراك الحالي، وتمنح القدرة على موازنة واقع هذه الثورات مع قيم الثورة الفرنسية. في قسمَي الكتاب (الثورة الفرنسية الكبرى، ونصوص مختارة) الذي قدّمه عمر فاخوري، يرصد ابن بلدة نابيه اللبنانية بدقة المسارب الأولى للثورة الفرنسية وسياقاتها، بالإضافة الى انعكاساتها الأولى على بواكير الأعلام والأدباء في العالم العربي، ولا سيما في مصر والشام.
ويقدم الكاتب في هذا السياق لمحة موجزة أو سرداً مقتضباًَ لأحداث الثورة الفرنسية 1789. هذه التوطئة تأتي مؤطّرة بلمحة عن إرهاصات الفكر الغربي التي سبقت هذا الحدث العظيم في التاريخ العالميّ (عصر النهضة، الكشوفات العلمية وحركة الأحياء).
في المسارب الأولى للثورة، باتجاه العالم العربي، تعتبر حملة نابوليون بونابرت على مصر نقطة الانطلاق على الصعيد الكرونولوجي والمعرفي لرصد آثار هذه الثورة وتفاعلاتها مع الشرق العربي. تضاف إليها رحلة البعوث التي نفذها محمد علي باشا إلى الديار الفرنسية.
في هذا الإطار، يُبرز الكاتب بدقة ملاحظاته حول انطباعات هؤلاء الوافدين الأوائل على البلاد الفرنسية. الحديث هنا يتناول بالضرورة رفاعة الطهطاوي وآراءه المقارنة من خلال نتاجه الأبرز «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». وفي السياق نفسه، يحاول الكاتب استقصاء الحقبة التي بدأت تتواتر فيها أخبار الثورة الفرنسية في بلاد الشام، وفي لبنان على وجه الخصوص. في هذا الإطار، يستنتج الكاتب بناءً على تاريخ الأمير حيدر الشهابي «أنّ اللبنانيين سمعوا حوادث الثورة في عهد باكر كهجوم الشعب على القصر الملكي عام 1792». ويعتبر الكاتب من خلال كلام الأمير الشهابي أيضاً أنّ رأي اللبنانيين بالثورة في ذلك الحين شابه اضطراب كبير إذا أخذنا في الاعتبار موقف الأوساط الدينية آنذاك من الثورة والحكم على الملك بالإعدام. التأثير الواضح للثورة في لبنان سيظهر من دون أدنى شك في ما بعد عبر المنشور الذي أذاعه الذين ثاروا على ابراهيم باشا والاحتلال المصري للبنان عام 1840، إذ ذكر المنشور بشكل جليّ الثوّار الفرنسيين. وفي الإطار نفسه، يرجّح الكاتب تأثراً أقدم عهداً من خلال حركة بعض الانتفاضات التي سميت عاميات (كعامية أنطلياس 1821) في إشارة الى كومونة باريس الأولى عشية الثورة الفرنسية استناداً الى التعريب الحرفي للكلمة (commune).
يورد الكاتب، الذي اشتهر بمناظرته المعروفة مع طه حسين حول الأديب ودوره، نصوصاً مختارة لمروحة واسعة من أعلام وأدباء القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ويمارس في سياق متصل تقويماً دقيقاً، تحت عنوان «أعلام وأدباء أمام الثورة»، في ما يتعلّق بمدى تأثير أفكار وقيم الثورة الفرنسية في النتاجات الفكرية وقتذاك. جردة واسعة لنصوص يمكن اعتبارها شاهداً على مرحلة التلاقح الأساسية بين الروح الجديدة الوافدة والروح النهضوية التواقة إلى التلقّي وإحداث النقلة بعد قرون اتسمت بالجمود والتقليد. جردة تشمل مثالاً لا حصراً: أحمد فارس الشدياق، نوفل نعمة الله الطرابلسيّ، جمال الدين الأفغاني وتلميذه أديب إسحاق، عبد الرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد)، فرنسيس فتح الله المراش (غابة الحق)، حسن باشا، روحي الخالدي، أمين الريحاني، أمين البستاني، عبد الله النديم. مرحلة اتسمت بالجدّة والأصالة من منظور جديد لم يألفه العرب... بروز تحديات الوعي وأسئلة العقل والحرية ومناهضة الاستبداد الدينيّ والاجتماعي والسياسيّ وغيرها من الثيمات في حقبة كانت مواضيع من هذا القبيل لا تزال في دائرة اللامفكّر فيه.