«امرأة تشبه نساءً كثيرات من جيلها في لبنان، عاشت السنوات الأولى من حياتها في المدينة التي ولدت فيها، تشرّبت منذ طفولتها روح العدل، وتبنّت اليسار رؤية، والعروبة هويّة. لكنّها ورثت أيضاً التناقضات: عن مدينتها المحافظة، ورثت ثورة سياسيّة لم تنقطع، وقلّ أن كان لها نظير، وعن أسرتها التي تفوق المدينة محافظةً، ورثت جرأة في التفكير، ومراساً في إعادة النّظر في الأحكام المسبقة». بهذه العبارات تصف الكاتبة والروائية اللبنانيّة رجاء نعمة نفسها في كتابها الجديد «مذكّرات امرأة شيعيّة» الصّادر عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت. من سؤال قد يبدو عابراً للوهلة الأولى، تبدأ حكاية الكتاب. تسأل كاترين الآتية من أوروبا إلى اليمن صديقتها رجاء بكثير من الدّهشة حين تخبرها الأخيرة بأنّها مسلمة: «معقول؟! لأيّ المذاهب الإسلاميّة ترجع أصولك؟».
يفتح السؤال بوابة من التداعيات تمتدّ إلى آلاف السنين حيث خرجت أليسار الملكة الفينيقية من ساحل لبنان إلى الساحل الجنوبي للبحر المتوسّط لتنشئ مملكة قرطاج وتنشر الأبجدية، وحيث تنكّر الإله زوس بهيئة ثور ليخطف أوروبا من فينيقيا إلى قارات بعيدة، فيلحق به شقيقها قدموس بغية استردادها لتكون رحلته بوابّة لتغيير وجه التّاريخ، «ولعلّه من ضروب المصادفات أن آتي أنا من مسقط رأسها صور، وأنت من قلب أوروبا لنتابع المهمّة التي بدأتها الجدّة العظيمة تلك». تقول رجاء لصديقتها كاترين، فتبدأ سرد حكاية مدينتها صور بلغة أدبيّة يختلط فيها السّرد الروائيّ بالسّيرة الذاتية، ما يفسّر وسم غلاف الكتاب بـ«سيرة روائيّة».
تبدأ رحلة الذكريات من أواسط القرن التّاسع عشر حيث الجدّ الشيعي عبد الله نعمة يؤوي في بيته في قرية حبّوش في الجنوب اللبناني عدداً من المسيحيين الموارنة الهاربين من الحرب الطائفيّة بين الدروز والمسيحيين. وإذ يخشى عليهم، يرسلهم برفقة بعض أبنائه للجوء إلى مدينة صور حيث سيطيب المقام فيها للأبناء لتكون مدينتهم.
صور المدينة الوادعة، المتنوّعة ديموغرافيّاً، المتسامحة، والمتكئة على إرث تاريخيّ حضاريّ تمتدّ جذوره إلى آلاف السنين التي تتفاعل مع محيطها، ومع ما يجري في العالم كمدينة حيّة، يصيبها من تغيير ما يصيب العالم. نعيش مع الكتاب في جوّ روائيّ يزخر بالتأريخ، والوصف، والتّحليل، من حقبة الاحتلال العثمانيّ، إلى السفر برلك، وبداية الانفتاح على العالم، والخروج من عباءة التقاليد التي كانت تكبّل المدينة، حيث تبدأ النساء بالتعلّم، ويبدأ رجال المدينة رحلة البحث عن آفاق أخرى عبر السفر، والهجرة، مؤرّخة بذلك للهجرات العربيّة الأولى نحو أميركا، وأفريقيا.
بالإضافة إلى ذلك كلّه، نعايش البيئة التي نشأت فيها الكاتبة في كنف أسرة محافظة، لكنّها تتمتع بذهنيّة منفتحة. كانت بناتها من أوائل المتعلّمات في المدينة، ومن أوائل اللواتي خلعن الحجاب حين كانت المدينة تخلع حجابها أيضاً، وكان عمّها من أوائل المهاجرين إلى أميركا، ولحق به والدها بعد سنوات.
بعيني طفلة صغيرة، تستعيد الكاتبة ذكرياتها عن المدينة عبر سرد روائيّ مشوّق تحمل فيه الشخوص الواقعيّة سحر الشخصيّات الروائية التي تتنقّل بين الصّفحات بطريقة مشهديّة أقرب إلى الدراما، لتروي لنا تبدلات الحياة، وتغيراتها، وقسوتها، ابتداءً من القسوة الاجتماعية النّاجمة عن العادات والتقاليد، وصولاً إلى القسوة السياسيّة جرّاء الاحتلال الذي لم يلبث لبنان أن نفض غباره حتّى عاد إليه بصيغة أكثر وحشيّة عند دخول إسرائيل إليه، ووصولها إلى العاصمة بيروت، بعدما كان لبنان الحاضن الأوّل للنازحين الفلسطينيين. هو البلد المتنوّع الذي كان يذخر آنذاك بالحراك الثقافيّ، والسياسيّ، ويغلي بالأحزاب القوميّة، والعروبيّة، والاشتراكيّة، والعلمانيّة، وحيث تلاشى التمييز على أساس الانتماء الطّائفي لمصلحة التمييز الأيديولوجي (يمين، يسار).
في الجزء المعنون «أزمان وألوان»، تعود الكاتبة إلى السيرة الذّاتية بعيداً عن الأجواء الروائيّة. تروي لنا رحلتها من صور إلى بيروت، ومنها إلى باريس حيث ستكمل دراستها، وتتعرّف إلى العالم عن قرب، هي التي أصبحت كمثقّفة نتاج الفكر النضاليّ، واليساريّ، تحمل معها أفكارها عن التحرّر الإنسانيّ من خلال إيمانها بالقضايا الوطنيّة، وبالقضيّة الفلسطينيّة، وإيمانها بقضايا المرأة ومقاربتها بنحو علميّ مغاير لما هو سائد. يتضح ذلك حين تتحدّث عن عودة ظاهرة الحجاب بعدما تلاشت لفترة من الزمن، مع اختلافات جوهريّة بمضمون الحجاب الجديد حيث تقول: «ليس لعودة الحجاب الذي خلعته «المرأة الجديدة» مغزى واحد، «إيشارب» اليوم دالّ كثيف المعاني، رمز خرجت به النساء في الجنوب، هاتفة في وجه المحتلّ الاسرائيليّ: الله أكبر. وعودته تعبّر بامتياز عن المأزق الحضاريّ السياسيّ الذي يعصف بالبلاد، فيجعلها مهدّدة في قيمها وثقافتها، وكيانها، مشهد الأزياء اليوم يحاكي المشهد السياسيّ لحدّ بعيد، هكذا، دول الأقطاب تصدّر العريّ، ودول الأطراف تصدّر الحجاب».
«مذكّرات امرأة شيعيّة» سيرة روائيّة يمتزج فيها الخاص بالعام، لنكون أمام عمل أدبيّ يحمل في طيّاته الكثير من التأريخ، والقراءة المتأنيّة لواقع سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ أسهم في إنتاج نماذجه الخاصّة، والمتنوعة بناءً على تنوّعه، وانتصر للمرأة في تاريخها النضاليّ بعيداً عن صورتها كجسد تصفه الكاتبة بقولها: «لكم أنت ثمين أيّها الجسد، أغلى ما تملكه المرأة، وعليه لابدّ إمّا من تغطيته كاملاً منعاً للغواية، أو التباهي بعرضه تحقيقاً لها».
وإذا عدنا إلى مقدمة الكتاب والسؤال المحرّض لكتابة هذه المذكّرات «لأي المذاهب الإسلاميّة ترجع أصولك؟»، سنجد الإجابة بين دفّتي الكتاب، بأنّ الإنسان نتاج بيئته، ونتاج تفاعله مع عالم يعيش فيه، ويشكّل جزءاً منه، وإن كانت الذكريات هي فحوى الكتاب، فإنّ السيرة لم تنته؛ لأنّ «الختام ليس من صفات الذكريات، فهذه بحر، لم يكن لك يد في الدخول إليه، كما ليس في طوعك الخروج منه، فالذكريات، وإن كانت لا تعنيك، إلّا انّها ليست ملكك، لا أحد يملكها، وليس في طوعنا سوى الإضافات، إنّها عالم شاءت الأقدار أن يكون لنا فيه مرقد، أن نتسلّم فيه مكنونات من جاء قبلنا، ريثما
نسلّم».