القاهرة | داخل الصراع العام السائد في مصر، هناك صراع آخر تديره الدولة بهدف تعزيز نفوذها من خلال خلق التناقضات وتبنّيها. أحدث الأمثلة على ذلك هو إصدار «الهيئة المصرية العامة للكتاب» طبعة جديدة من كتاب المستشرق غوستاف لوبون (الصورة، 1841 ــ 1931) «حضارة العرب»، ثم قيام «مجلة الأزهر» بإعادة نشر مقالات فريد وجدي التي انتقد فيها دراسة لوبون. المقالات الثمانية نشرت في كتيب وزِّع كهدية مع المجلة، وكتب لها رئيس التحرير محمد عمارة مقدمة بعنوان «في الرد على الماديين»، مبرراً ذلك بصدور طبعة جديدة من «حضارة العرب». ورأى «مجمع البحوث الإسلامية» إعادة طبع مقالات وجدي «تعبيراً عن الموقف المتوازن من إيجابيات النظرات الغربية المنصفة لحضارتنا، من دون إغفال النقد والتفنيد لما فيها من سلبيات». اعترف عمارة بموضوعية المستشرق الفرنسي، لكنه اتهمه «بالإساءة في الحديث عن جانب الوحي»؛ لأن «لوبون ينطلق من فلسفته الحسية الوضعية المادية، معتبراً الوحي خيالات مرضية».
المغالطة المنهجية لعمارة تتمثل في اختزاله للمذاهب الفلسفية إلى مذهب إلهي يؤمن بقوة علوية فاعلة في الوجود، ومذهب مادي حسي لا يؤمن بما هو خارج عن المحسوس؛ فضلاً عن تسمية «التوجه المثالي» القائل بأسبقية الفكر على المادة بـ«الإلهي»، متهماً التوجه العقلاني بالإلحادي. وقد ذُيِّل الكتاب بتقرير مجمع البحوث رأى أنّ إشارة المترجم الراحل عادل زعيتر إلى أخطاء لوبون لا تكفي؛ فـ«الأخطاء فاحشة بمعايير ومقاييس الإيمان الإسلامي، ومرجعها هو الموقف الفكري والفلسفي للمؤلف الذي لا يؤمن بما وراء الطبيعة، لذلك يسمي الأنبياء مؤسسي الأديان والدول ثم يعود إلى الزلة الفاحشة في وصف وحي النبي بالهوس». وطالب السلطة التنفيذية بإعمال القانون رقم 1038 لسنة 1961 الذي يقضي بأنّ الأزهر هو صاحب الرأي في الشأن الديني. وفي إشارة إلى سعة صدر المجمع (!)، أوضح محمد عمارة أن الهدف ليس المصادرة، بل تصحيح ما يُنشر «حتى لا تترك الأخطاء الفكرية من دون تصحيح».
المشكلة أن الصراع بين مجلة «الأزهر» و«هيئة الكتاب» غير متكافئ نظراً إلى قوة توزيع المجلة ورخص ثمنها (جنيهان/ 0.28$) مقارنة بضعف حركة التنوير، والمزاج الشعبي الديني «المحافظ» في المجتمع المصري.