في «القمع السياسي وتجلياته في نماذج مختارة من الرواية العربية الحديثة» (تعريب عائدة خداج أبي فراج، طارق أبي فراج، دار الآداب ـــ 2013)، يرصد الكاتب اللبناني الراحل عفيف فرّاج الجذور التاريخية للنظرة الغربية الاستعمارية تجاه الشرق. الكتاب السادس الذي صدر بعد وفاة الكاتب هو في الأساس أطروحة دكتوراه حصل عليها من «جامعة كارل ماركس» (لايبزغ) في ألمانيا عام 1983 ونقلت أخيراً الى المكتبة العربية. السبب في إصدار العمل في هذا التوقيت وفق ما جاء في المقدمة «أنّه الزمن المناسب للكتابة عن القمع والظلم، الزمن الذي يشهد فيه العالم العربي حراكاً طال انتظاره منذ عقود».
يستهل صاحب «دراسات يسارية في الفكر اليميني» أطروحته بالحقبة اليونانية التي دشنت أولى محطات الرؤية الإسقاطية/ الانشطارية تجاه الشعوب الأخرى، على إيقاع عوالم البرابرة والثقافة الهيلينية المتحضرة. يخلص فراج الى أنّ هذه المركزية التي جعلت من اليونان موطن الحضارة مقابل شعوب همجية تركت تأثيراً عميقاً على مجمل الخطاب الغربي، ومن ضمنه الأدبيات الاستشراقية. يعتمد الباحث على المنهج النقدي المقارن وتقنية تحليل المضمون، بغية الخروج بنتائج تسمح بدحض هذا التقابل الأبدي بين الشرق والغرب وفقاً للفهم اليوناني أولاً والروماني ثانياً والأوروبي أخيراً. وفي محطات كثيرة يجري المقارنات من أجل الإضاءة على الأرضية المشتركة التي انطلق منها دعاة التحضر في اليونان والامبراطورية الرومانية وأوروبا إبان حقبة الحروب الصليبية وبعدها.
لا يهدف الكاتب الى توثيق المعلومات، فالعمل في الأساس ليس مادة تاريخية، ما جعل القارئ يتمكن من فهم الأسس الإيديولوجية التي بنى عليها الاستعماريون القدماء والجدد، وخصوصاً أن الفترة الزمنية التي غطاها تمتد من اليونان الى أوروبا.
يفكك صاحب «المرأة بين الفكر والإبداع» الرؤى المركزية التي أنتجت ثنائية شرق غرب، ويناقش الخلاصات التي تقدم بها الفكر السياسي في اليونان الكلاسيكي بهدف الإحاطة بالتصنيفات التي وضعها فلاسفة ومؤرخون كبار من أمثال أفلاطون، وأرسطو، وثوسيديديس. وقد حاول هؤلاء المماثلة بين الآسيويين والبرابرة انطلاقاً من العرقية الثقافية التي تجلت في مضامين البرجوازية الرومانية أيضاً.
يفرد الكاتب جزءاً مهماً من الكتاب لمناقشة الأفكار التي صاغها هيغل. لم يكن الفيلسوف الألماني معزولاً عن مؤثرات التركة الرومانية ـــ اليونانية، بل تتفاعل عنده ويندمج العرق في الثقافة، لكن أهمية استحضار هيغل لا تأتي من «سلسلة الوجود التراتبية الهرمية» فحسب، فالحرية بالنسبة إليه إنجاز مسيحي غربي وكذلك العلم والتقدم. وبناءً على هذه التركيبة، طوّر رؤيته تجاه الاستبداد الشرقي والمركزية الأوروبية، علماً أنه لم يوفر الإسلام أيضاً، فحاول المطابقة بينه وبين التأخر الحضاري. وفي سبيل نقد النظريات الهيغلية، يستند فراج الى أنغلز وكارل ماركس وتوينبي.
بدت سطوة الايديولوجية العرقية ـــ الثقافية مع الصليبيين أشد كثافة. نظر هؤلاء الى العرب والإسلام من الموقع نفسه الذي سبقهم اليه الرومان واليونان. يتطرق الكاتب الى الاستشراق الذي واكب حركة الاستعمار الأوروبي، ويدرس طروحات أرنست رنان، وبرنارد لويس، وفون غرامبوم، وغيرهم من الباحثين والأدباء والفلاسفة الأوروبيين الذين خاطبوا الإسلام والشرق من وجهة نظر ثقافية غربية استعلائية. يستحضر صاحب «في السياسة والأدب السياسي» ادوارد سعيد للرد على الخطاب الاستشراقي محدّداً أهم النقاط التي توصل اليها في أطروحته الشهيرة «الاستشراق»، لعل أهمها الصورة الانتقاصية الواحدة والمتطابقة التي رسمها بعض المستشرقين تجاه الإسلام.
تحت عنوان «الأسس الاجتماعية ـــ الاقتصادية لنظرة الغرب العدوانية نحو الشرق»، يحدد الكاتب الأسباب التي دفعت اليونانيين والرومان ومن بعدهم الأوروبيين إلى غزو العوالم الأخرى.
ومن أجل الرد على نظرية الاستبداد الشرقي والرؤى التي بلورها المستشرقون، يعود بنا الكاتب الى المساحات المضيئة في الإسلام الحضاري ليؤكد على الطابع التوحيدي واللاعرقي والتسامحي الذي خبرته الحضارة الإسلامية، ما دفع المستشرق البريطاني مونتغمري وات الى القول «إن محمداً شكل ردّ الشرق على تحدي الإسكندر، أي رد الفعل الاجتماعي الاخلاقي على سياسة التمييز العرقي للحكم الاغريقي الروماني».
يرصد فراج الحقبة الراشدية التي رأى أنها تميزت بالمثل الإسلامية للمساواة والوحدة الى أن قُتل عمر بن الخطاب الملقب بالفاروق، الذي سجل له التاريخ التأسيس لاشتراكية إسلامية حين أصدر «نظام المقاسمة»؛ فما الذي حصل بعد هذه الفترة؟ يخلص الكاتب الى أن تعيين عثمان أدى الى «انتصار الطبقة الأوليغاركية المكيّة» أو حكم القلة، وهي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية. وهنا نجده يستعين بكتاب أحمد عباس صالح «اليمن واليسار في الإسلام»، الذي وصف فيه الخليفة الثالث بأنه «حاكم يخدم عن إدراك ووعي مصالح من وصفهم بالحزب اليميني في الإسلام، الذي يتناقض مع ممثلي التيار اليساري الممثل بسلمان الفارسي، وعلي بن أبي طالب، وأبو ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر وسواهم» الى أن يصل الى « أنّ انتخاب عثمان مثل ذروة المؤامرة الأوليغاركية التي بدأت باغتيال عمر».
يناقش صاحب «رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود» النظريات الغربية التي نفت وجود حركات المعارضة في الإسلام التاريخي، ويشدد على أنّ المعارضات لم تستكن طوال التاريخ المنظور، بدءاً من الخوارج وصولاً الى ثورة الزنج والقرامطة وغيرها من حركات الاعتراض. لقد مرت الحضارة الإسلامية في «أزمة اهتياجية دائمة» على حد تعبير المنصف المرزوقي (نحيل هنا على كتاب «طغاة معفيون من الخدمة: ثأر الشعوب العربية» تعريب خليل أحمد خليل).
الجزء الأخير من الكتاب خصصه فرّاج لقراءة نماذج مختارة من الرواية العربية الحديثة التي روت مآثر القمع السياسي، وقد اختار نجيب محفوظ، وصنع الله ابراهيم، وعبد الرحمن منيف، وجبرا جبرا، وغالب هلسا، وحيدر حيدر، وأمين العيوطي، ويوسف ادريس، وحنا مينة، وغسان كنفاني. هؤلاء الروائيون عكست رواياتهم الاستبداد الذي عاناه جيل كامل تحت وطأة الأنظمة العسكرية.
رغم أهمية المادة النقدية/ المقارنة التي خرج بها الكاتب في دراسته لأدبيات القمع السياسي العرقي والثقافي، ثمة قضايا مهمة تعامل معها باقتضاب شديد. اكتفى بقراءة الخطاب الاستعماري ولم يحلل البنى السياسية والاجتماعية لأسس الاستبداد في ديار الإسلام بالشكل المطلوب، ولم يشر الى المسارات التثاقفية التي خبرتها الحضارة الإسلامية. ونقصد هنا تجربة قرطبة التي أقيمت على أعمدة التسامح والتفاهم بين الثقافات التي تعد بمثابة الرد الحضاري على مقولة الصدام بين الشرق والغرب.