أول ما يلفت انتباهنا في معرض شوقي شمعون (1942) الذي يستضيفه «مركز بيروت للمعارض» بعنوان «شوقي شمعون 2006 حتى الآن» أنّ الرسام اللبناني قد وصل إلى نوع من التصالح أو الهُدنة مع لوحته. هناك راحة واسترخاء ينبعثان من اللوحات الـ 70 المعروضة. لا يكرر الرسام نفسه، إلا أن التصالح حاضرٌ ـ بنسب متفاوتة ــ حتى عندما يتغير موضوع اللوحة وطريقة تأليفها. التصالح (قد) يُعفي اللوحة من القلق والحيرة، ويجعلها سائغة وميسّرة.
هذا لا يلغي التحديات التي يخوضها الرسام، لكنّ هذه التحديات ليست مجهولة بالنسبه إليه. قد يكون القلق موجوداً، لكنه مكتوم ومدفون بعناية تحت تقنيات باهرة تغطي عليه. كأن الرسام وصل إلى نبرة أو حساسية تُرضيه وتُرضي الجمهور أيضاً. جزءٌ من هذا الانطباع قادم من إقامته الطويلة في الولايات المتحدة، حيث أكمل دراساته العليا بعد تخرجه في معهد الفنون الجميلة في بيروت (1972)، قبل أن يعود منتصف الثمانينيات إلى العاصمة اللبنانية. المسافة حررته من الأسئلة المباشرة للهوية، وفتحت مخيلته ومدونته اللونية على مؤثرات خصبة وثمينة. تجربة شمعون خليط ناجح من تفوقه في ترجمة مشهديات الطبيعة اللبنانية والمشرقية، ومن قدرته على إنجاز ذلك بالتقنيات والممارسات التي اكتسبها من دراسته في الخارج. وإذا شئنا التدقيق أكثر، فإنّ التأثير الأكبر جاء من المعلم الأميركي جاكسون بولوك (1912 – 1956)، ومن تجارب التجريد التعبيري عموماً. تأثيراتٌ برع شمعون في تبييئها داخل تجربته التي تتأرجح بين المحلية والعالمية. رسم الفنان المخضرم أعمالاً تستثمر جماليات جبال لبنان وسهوله ومسطحاته المائية، لكنّ ذلك لم يحدث بشروط المنظر الطبيعي التقليدي، ولا بتنمية الحس الغنائي والتجريدي الذي تصنعه تناظرات اللطخات اللونية على قماشة اللوحة. لا تزال الخيوط التي تربط لوحاته بالطبيعة اللبنانية راسخة في أعماله، إلا أنها منفتحة في الوقت نفسه على مذاقات ونكهات مستوردة. توصيفٌ يمكن معاينته بسهولة في معرضه الحالي الذي تعوم لوحاته على طبقات متراكمة من الممارسات والخيارات اللونية التي صنعت اسمه وفنه الشخصي، وأوصلته إلى حالة التصالح التي أشرنا إليها. ما نراه في لوحات المعرض هو بقايا الصورة الفوتوغرافية أو الواقعية التي يمكن أن نتخيلها للمنظر أو الموضوع الأساسي الذي بدأت به اللوحة. التجريد يتحقق بالعناية بهذه البقايا التي تذكرنا بما بذله الرسام كي يُبقيَ إيحاءات مينيمالية منها. رغم التقنيات المشتركة بين أغلب الأعمال المعروضة، إلا أنها مقسمة زمنياً وفنياً على أربعة موضوعات رئيسية، وموزعة بطريقة منفصلة في أروقة المركز، بحيث يستطيع الزائر البدء بالأحدث إلى الأقدم، أو العكس. الأعمال الأحدث تتشابه في السطوح الشاسعة والمفتوحة في الأعلى، مقارنة بأشكال بشرية متناهية في الصغر تقف في صف طويل أسفل اللوحة. أحياناً، يكون السطح جانباً من صحراء ممتدة، أو ساحلاً بحرياً، أو مربعات شطرنجية أو زخارف سجادية منسدلة من الأعلى إلى الأسفل. في الأحوال كلها، تعطي اللوحات انطباعاً عن صِغَر وهشاشة الإنسان في مواجهة الكون، بينما لا نستطيع استبعاد الأداء التزييني الذي تلعبه الأرتال البشرية الشبيهة بنقاط وأشكال صغيرة وملونة. في المجموعة الثانية، نرى متتالية أو سلسلة منجزة بخطوط ومنحنيات تولّد اشكالاً شجرية ملتفة أو أجمات نباتية متسلقة، حيث التجريد يتحقق بالأداء الشكلاني التي تصنعه حركة الفرشاة على سطح اللوحة. الشكلانية ذاتها تلوح في أعمال تترجم مناظر مائية منفذة بتوشيحات لونية مدهشة في التقاطها لانعكاس الأوراق واهتزاز صورتها على المياه التي تنمو نباتات وظلال أخرى في قعرها. وأخيراً، نشاهد 10 لوحات متتالية منفذة بتوريقات ومنحنيات اللون الأسود الذي يكشف عن فراغات بيضاء ورمادية، بينما حركة اللون تكشف عن مزاج ارتجالي ومنضبط في آن واحد. الاختلاف في التفاصيل لا يقطع الصلة بين لوحات المعرض التي تتشارك فكرة الجداريات العملاقة والسخية في المساحة التعبيرية. كأنّ الرسام الذي بات اسمه حاضراً في الغاليريات والمزادات العالمية، يخترع جديده من قديمه، وهو ما نجده في المجلد الصادر بالإنكليزية تزامناً مع المعرض بعنوان «فن وحياة شوقي شمعون»، ويروي فيه الرسام محطات أساسية من سيرته الفنية، بينما تتراكم نماذج من أعماله التي تُظهر النقلات والمنعطفات العديدة التي صنعها في تجربته. تجربةٌ منفتحة على المؤثرات الخارجية، وقادرة على إدهاش المتلقي بتحويل ذلك إلى مقتنيات خاصة.



«شوقي شمعون 2006 حتى الآن» : حتى 14 نيسان (أبريل) ـــ «مركز بيروت للمعارض» (بيال) ــ للاستعلام: 01/962000