بطيبة قلبه التي كانت سلاحه الوحيد، ربما كان يمكن لياسين بقوش (1938ــ2013) مسامحة مَن كان سبباً في عيشه تاريخاً من الإجحاف ونكران الجميل والتهميش. لكن من ذاك الذي يملك قدرة الصفح عن قاتليه؟ وهو الذي يستحق بعد هذا التاريخ الحافل من صناعة الفرح، ميتةً هادئةً على سريره الدافئ محاطاً بعائلته وأحفاده. لكن الحقد ولد بهذه البشاعة، فجعل ياسينو يرحل بصورة لا تليق بهدايا الفرح التي لطالما وزعها يمنةً ويسرةً. تعود أصول الكوميديان السوري إلى ليبيا، لكن سبق للقدر أن حاك خيوطه عند رحلة جده إلى الحج ومرضه، فعودته إلى دمشق مفضلاً الاستقرار فيها وتأسيس عائلة ليكون أحد أحفاده ياسينو. روى مراراً أنّه اكتشف قصة نسبه بعد شهرته، وتلقيه اتصالاً من عمته الليبية وزيارتها له. ورغم أنّ مجده صنع برفقة مؤسسي الكوميديا السورية (حسني البورظان/ نهاد قلعي، غوار الطوشة/ دريد لحام، أبو عنتر/ ناجي جبر، أبو صياح/ رفيق السبيعي)، إلا أنّ البداية كانت على يدي عبد اللطيف فتحي (أبو كلبشة) الذي أسس فرقة «المسرح الحر». عمل ياسين معه منذ عام 1956، ثم انتقل إلى «مسرح العرائس»، وكان واحداً من ممثلي المسرح القومي، وعمل في مسرحية سعد الله ونوس «سهرة مع أبي خليل القباني» للمخرج أسعد فضة، إضافة إلى عمله أواخر الستينيات مع عمر حجو في «مسرح الشوك». لكن كل ذلك كان نقطة في بحر الشهرة التي حصدها الكاراكتر الذي صنعه نهاد قلعي، فرسخ ياسينو في ذاكرة الجمهور ولم تتمكن سنوات غيابه الطويلة من محو أثره. لذلك، كان ياسين وفياً لأستاذه وصانعه ولم ينقطع عن زياراته والوفاء له لغاية وفاته، حتى إنّه سمّى أصغر أبنائه نهاد. من «صح النوم» إلى «مقالب غوار» و«ملح وسكر» و«وادي المسك» و«عريس الهنا» و«تلفزيون المرح»، ظل بقوش أسير شخصية تولف الطيبة والفرح الذي يولد من رحم السذاجة. بعد تراجع حضور دريد لحام ثم محاولة عودته بمسلسل «عودة غوار» (1999)، نُقل أنّ ياسين لم يقبل بدور البطولة بسبب رفضه، ولو تمثيلاً، أن يخون صديقيه القديمين غوار وأبو عنتر في العمل. يومها، قال لصاحبه: «هل تريد للناس أن يبصقوا عليّ في الشارع؟». بهذا الوفاء للكاراكترات الأشهر في تاريخ الدراما السورية، عاش ياسين بقوش من دون أن يوفق في ما قدمه من أعمال في المسرح التجاري أو في مسلسلات أخرى مثل «ياسين تورز»؛ لأنها حاولت استثمار الشخصية مجاناً؛ فسرّ نجاحها يكمن في طريقة صياغتها ووضعها في مكانها المناسب ضمن تركيبة لم تتمكن الدراما السورية من تكرارها.
لكن المخرج محمد عبد العزيز سيعيد تقديم الممثل بشكل مختلف مرة كعارض سينما في فيلم «نصف ميليغرام نيكوتين» (2009) ومرة كمختار لحي ركن الدين في فيلم «دمشق مع حبي» (2011). في اتصال مع «الأخبار»، يقول عبد العزيز: «مجدداً، سقطت ورقة خضراء من الشجرة الأم، وسندوّن تاريخ وفاته بحبر أسود في مستنقع الوحل الذي غرقنا فيه». ويشير المخرج السوري إلى أنّ ما يتذكره عن الراحل «هو دقة مواعيده وقلم الرصاص الذي يدوّن به ملاحظاته منذ اللحظات الأولى لقراءة النص». فيما فضل شريكه دريد لحام «الاعتصام بصمته وحزنه وصدمته وغضبه مما يحدث»، وفق ما قال نجل الكوميديان السوري في اتصال مع «الأخبار». كذلك، اختار رفيق السبيعي تأجيل الحديث لـ«الأخبار» عن رحيل زميله حتى وقت لاحق. لعلّه الخوف من الجنون السوري الذي تجاوز الذروة، ما يجعل أيقونات الكوميديا السورية يترددون حتى في نعي رفيق الدرب.
بالعودة إلى الجريمة النكراء وتداعياتها، فقد تعددت التحليلات التي لم توفّر الرقص على دماء الشهيد وتبادل الاتهامات قبل أن توارى الجثة الثرى. مع بث مقطع الفيديو أول من أمس الذي يظهر ياسين مضرجاً بدمائه ويتهم النظام بقتله بقذيفة «آر بي جيه»، تضاربت الأنباء حول صدق المعلومة، والمكان الذي وقع فيه الحادث. المسلحون الذين وضعوا أوراقه الشخصية أمام الكاميرا، قالوا إنّه قتل بقذيفة من الجيش النظامي وسحبت أوراقه كاملة بعد احتراق السيارة، ليبث فيديو آخر يتهم «الجيش الحرّ» بقتله كنتيجة منطقية للفيديو الأصلي، إذ ركّز على عرض أوراقه الشخصية السليمة وجملة «تم حرق السيارة كاملة». وتساءل الشريط عن سبب غياب آثار الحروق عن الجثة التي تخلفها القذيفة عادة. كل ذلك بالتوازي مع بث مقطع فيديو كتب عليه «ياسين بقوش مع الجيش الحر في مخيم اليرموك». أظهر الشريط نجم «صحّ النوم» مع ابنه في سيارتهما عند حاجز لـ«الجيش الحر»، خاضعاً لمجموعة أسئلة، فراح يجيب عنها بأنّه يسكن على مقربة من الحاجز وأنّ ابنه يسكن في حي الدحاديل (على مقربة من منطقة العسالي حيث لقي مصرعه). وقد بدت عليه علامات الريبة من عناصر الميليشيا المسلحة، وخصوصاً عندما طلب أحدهم التقاط صورة معه بينما أعفاه عنصر ثان من المهمة. وبعد مرور السيارة، ضحك المسلّحون وردّد أحدهم «يا ريتك خليتني صوّروا مع السلاح».
في حديثه مع «الأخبار»، يفيد مصدر مقرب من عائلة الراحل بأن عائلته حرصت على عدم خروجه من منزله في مخيم اليرموك بسبب سوء الأوضاع الأمنية، لكنّه خرج من دون علم أحد، فأردته الاشتباكات قتيلاً قبل أن يُمثَّل بجثته. وتصرح الشقيقة الوحيدة لياسين بقوش في اتصالها مع «الأخبار»: «علمنا الخبر من محطة «الجزيرة» التي كانت أول من بثّ الخبر، ثم علمنا بوجود الجثة في «مستشفى فلسطين» (مخيم فلسطين المحاذي لـ «اليرموك»). وقد نقلناها ليجري التشييع غداً (اليوم) عند الـساعة 11 صباحاً من أمام «مستشفى المجتهد» في دمشق باتجاه «جامع الشيخ محيي الدين بن عربي» في حي الصالحية. وسيصلى عليه عقب صلاة الظهر ليوارى في مثواه الأخير في مقبرة التغلبية في الصالحية»، على أن يقام العزاء في «صالة الإسعاف الخيري» بالقرب من ساحة النجمة.
من جانب آخر، تقول شقيقة الراحل: «لا نعرف الطريقة التي قضى فيها. لم نسأل لأننا تفرغنا لمصيبتنا وتنفيذ مراسم الدفن. كل ما نؤمن به أن هذا قدره وموعد وفاته. أما قاتلوه، فسنسلّمهم لله. ليصطفل بهم لأنّ ياسين كان إنساناً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وكان أخاً حقيقياً وأباً حنوناً. ما أثق به ويدركه جيداً كل من عرف ياسين بقوش أنّه كان صاحب قلب طيب لم يؤذ شخصاً طوال حياته. ومن يعرفه عن قرب، لا يملك قلباً لأذيته بكلمة، فكيف فعل هؤلاء ما فعلوه؟». ياسين بقوش لم يذق طعم الوفاء من جيل ومؤسسات سورية تركته يعيش ظروفاً صعبة. لكن المؤلم حتى العظم أن تصبح جريمة قتله مطية لتبادل الاتهامات والتجارة الرخيصة بدماء السوريين وتراثهم.

* ألبوم صور للراحل ينشر للمرة الأولى بإذن من المخرج محمد عبد العزيز