عاد الشتاء ومعه عاد «مهرجان البستان» ليحتل المساحة الأوسع من النشاط الموسيقي المحلّي. على خارطة المهرجانات اللبنانية، يحجز فصل الصيف المرتبة الأولى من حيث الكثافة. أما فصل البرد، فيكتفي بحدث وحيد منذ عقدين تماماً. هكذا ينطلق «مهرجان البستان» الليلة بدورته العشرين التي تحمل عنوان «العالم بحاجة إلى موسيقى».
خلال السنوات الأخيرة، غيّرت معظم مهرجانات الصيف في سياساتها على مستوى البرمجة على حساب النوعية! الأسباب أمنية أحياناً، واقتصادية دائماً بسبب الازدهار الوهميّ الذي لا تنفك تمنّي به اللبنانيين الجهة السياسية التي أرست نهجها بعد الحرب. الانحطاط الأكثر انحداراً أصاب ــ لسوء الحظ ــ أعرق المهرجانات وأعلاها شأناً لناحية الأسماء الكبيرة في عالمَيْ الموسيقى الكلاسيكية والجاز: «مهرجانات بعلبك الدولية»، لكن الحق يقال، فالرسم البياني لمستوى دورات «البستان» منذ عشرين عاماً يكاد يكون مستقيماً. دورة استثنائية هنا، وأخرى أقل وهجاً هناك، أمرٌ لا يمكن اعتباره خللاً جوهرياً. حتى الاختلاف حدّ التناقض بين دورتيْن موجود، لكن لم يكن يوماً ذا طبيعة مقلقة. مثالٌ على ذلك، الدورة الحالية ودورة الـ 2012. هذه السنة، يبدو البرنامج نقيض البرنامج السابق، فيما مستوى المهرجان ثابت بين الأمس واليوم. التناقض هو بين المتعة في الاكتشاف والمتعة في التكرار، إذ إنّ المقارنة التي نتج عنها التناقض المذكور هي بين الأعمال التي سمعناها في أمسيات الدورة الماضية والأعمال التي نقرأ عناوينها في كتيِّب الدورة الحالية.
إذا انطلقنا من عنوانَيْ هاتين الدورتين المتتاليتيْن، يمكن تفسير الاختلاف الذي نتكلَّم عنه. خلال السنة الماضية، عنْوَن «البستان» دورته بـ «موسيقى أميركا اللاتينية»، مقابل «العالم بحاجة إلى موسيقى» هذه السنة. في الحالة الأولى، يمكن القول إنّ أميركا الجنوبية هي من أكثر القارات إنتاجاً للموسيقى (الكلاسيكية وغيرها)، فيما هي ما زالت تعاني انتشاراً محدوداً لهذا النتاج الفني (وخصوصاً الكلاسيكي منه) لأسباب عديدة، حيث الدخول فيها ضروري، لكنه غير متاح الآن. وفي الحالة الثانية، عندما نُعلِن أن العالم بحاجة إلى موسيقى، علينا أن نبدأ بألف باء الريبرتوار العالمي. من هنا، يصبح من الطبيعي، أولاً، أن تعجّ أمسيات الدورة اللاتينية بأعمال تراوح معظمها بين المغمور وغير المعروف أو حتى الجديد. ثانياً، أن تكون معظم الأعمال التي نسمعها هذه السنة من فئة الكلاسيكيات، مع وجود استثناءات في الحالتيْن.
النظرة البانورامية على دورة 2013 تبيِّن ثوابت المنظّمين. الفئات الموسيقية الكلاسيكية جميعها حاضرة، مِن ريسيتالات البيانو إلى موسيقى الحجرة والكونشرتوهات والموسيقى الأوركسترالية والغنائية والدينية والعمل الأوبرالي الكامل، كما يُضاف إلى الموسيقى الكلاسيكية، الموسيقى الإثنية والكلاسيكية ذات الطابع الشعبي والعرض الراقص والمحاضرة الأكاديمية... التعديل الذي أصاب البرمجة العامّة أتى على حساب الجاز والموسيقى العربية، لكن، وهنا المفارقة، يُعَد ذلك تطوراً إيجابياً لسبب بسيط: لم يوفَّق «البستان» في تنظيم أمسيات ذات قيمة في هذين المجاليْن إلا نادراً، لذا يصبح «اللاشيء» أفضل من الركيك.
كذلك، لجهة الفِرَق والفنانين المشاركين هذه السنة، حافظ «البستان» على هويته. تمثّلت الأسماء الكبيرة في فئتيْها: المكرّسون (بوريس بيريزوفسكي، سلفاتوريه أكاردو، غوتييه كابوسون وباكو بينيا)، والنجوم الصاعدة (كاتيا بونياتيشفيلي). المشاركة اللبنانية، من فنانين مقيمين أو مهاجرين، محفوظة أيضاً (جويس الخوري، كريستينا ناصيف، جوزيه بستاني وجوقات جامعتيْ «اللويزة» و«الأنطونية» والكونسرفتوار الوطني). وفي هذا السياق، حُجِزَت أمسية لزاد ملتقى المؤلِّف ـــ بعدما زار «البستان» كعازف بيانو محترف ــ يقدِّم خلالها عملاً جديداً من فئة الموسيقى المعاصرة.
بالمناسبة، تصادف هذه السنة الذكرى المئوية الثانية لولادة المؤلفيْن فاغنر (1813 ـــ 1883) وفيردي (1813 ـــ 1901). هما عملاقان في عالم الأوبرا. قدّما الكثير والجميل في هذا المجال ووضعا هذا الفن في قمّته الأوروبية بقطبيْها الجرماني والإيطالي. «البستان» لم يهمّش هذه المناسبة (راجع الصفحة المقابلة)، غير أنه لم يُمَحوِر دورته حولها. كبيران هما، لكنّهما لم يفرضا عنوان دورة كاملة على المنظّمين. في الواقع ما من مؤلِّف فرض ذلك من قبل، حتى شوبرت (1797 ـــ 1828) عام 1997، أو شوبان (1810 ــ 1849) وشومان (1810 ـــ 1856) مجتمِعَيْن عام 2010 وكذلك لِيسْت (1811 ـــ 1886) ومالر (1860 ــ 1911) عام 2011. رجلٌ وحيدٌ مُنِح هذا الشرف عام 2006 في الذكرى الـ250 لولادته... موزار. في الواقع، لا غرابة في ذلك، لكن، لماذا لم تحمل دورة مطلع الألفية اسم باخ (1685 ـــ 1750)؟ والسؤال البديهي: هل يُعامَل بيتهوفن (1770 ـــ 1827) مثل معلِّمه أم مثل معلِّم معلِّمه؟ الجواب في شباط (فبراير) 2020! أخيراً، يقول «البستان»: «العالم بحاجة إلى الموسيقى»، لكن الواقع يقول: «الموسيقى بحاجة إلى مَن يسمعها»... العائق المباشَر ماديّ أحياناً، والعلّة غير المباشرة ماديّة في الأصل.



«مهرجان البستان 2013»: بدءاً من اليوم حتى 24 آذار (مارس) ـــ «فندق البستان» (بيت مري) ـــ
للاستعلام: 03/752000 ــ 04/972980 ــ www.albustanfestival.com