القاهرة | لا يُشترط للصنم، أو الوثن، أن يكون تمثالاً، وإنما هو كل رمز يُعبد، تمثالاً كان أم حجراً، مزاراً أم شجرة أم نهراً، أو حتى زعيماً سياسياً أو رجل دين. لكن الذين قطعوا رأس تمثال طه حسين أخيراً في مدينة المنيا (جنوب مصر) يعرفون الأصنام كما رأوها في الأفلام الساذجة: أيّ تمثال هو صنم، بغض النظر حتى عن التصوّر بأنّ مواطناً في القرن الـ21 سينزل من بيته ليعبد تمثالاً نحاسياً في ميدان. وبالطبع، قبل كل ذلك، بغض البصر عن الحق الأصيل لكل إنسان في أن يعبد ما يريد.
هكذا جاء الاعتداء على تمثال «عميد الأدب العربي»، مشوّهاً لا من حيث الفكرة وعبث السلوك فحسب، بل أكثر تشويهاً من حيث شكل الاعتداء. لم يحطموا التمثال، بل قطعوا رأسه، تاركين البدن وحيداً في الساحة، كأنما هو ذبح معنوي لصاحب النصب، يتسق مع تحريم هؤلاء لوجود رؤوس للتماثيل. محلات الملابس الخاصة بهم، تعرض «مانيكانات» بلا رؤوس، فإن احتفظت المانيكان برأسها، مسحوا ملامحها كأنما في فيلم رعب. فلسفة كاملة تتفنن في طلب القبح، وتصوّر بدائي يخشى من الرسم والنحت على الصنائع الإلهية، ويحارب الأموات كأنّهم أحياء، ربما في هذا ــ أخيراً ــ لهم بعض الحق، صاحب «مستقبل الثقافة في مصر» ما زال عبر كتبه، يطلب المستقبل.
لا جديد يقال قد يضيف شيئاً إلى طه حسين. ما زال رائد التنوير متّهم ــ كالعادة ــ بالتغريب، ورائد الاجتهاد متهم ــ كالعادة ــ بالكفر، وهو فاقد البصر الذي قلّب بصيرته في كل مستقر وثابت. مبكراً، سدّد ضرباته إلى التراث أو إلى ما نحسبه تراثاً. ومبكراً انتبه إليه الظلاميون وقد أدركوا أنّ صاحب «في الشعر الجاهلي» (1926) لا يقصد فقط الشعر الجاهلي. في تشكيكه في نسب القصائد الجاهلية، وافتراضه أنّ معظم شعر ما قبل الإسلام منحول على يد الرواة، كان يشكك ــ من دون اضطرار للتصريح ــ في مجمل ما وصل إلينا قبل عصر التدوين. وعلى الرغم من أن بحثه في شعر الأجداد قاده أيضاً إلى تفكيك رؤى قارنت بين القرآن وبعض النصوص السابقة عليه، زاعمةً أنّ الأول أخذ من الأخير، فقال صاحب «على هامش السيرة» إنّ القصائد المزعومة قبل الإسلام قد كتبت بعده، ومن ثم فإنّ القرآن سابق عليها، إلا أنّ ذلك لم يشفع له. فقد كان منهجه أخطر. الشكّ الديكارتي الذي عاد به من أوروبا كان كفيلاً بهدم منظومة الكهنة، والجدل حول الشعر يعني الجدل حول اللغة، والجدل حول اللغة يعني الجدل حول النص المقدس، والجدل حول الأخير يعني أنّ حراس الأسرار اللاهوتية سيرجعون بشراً قابلين للأخذ والرد. لم يكن ذلك كله مسموحاً به على أي نحو. كانت تلك الحقبة الليبرالية المصرية، فلم يستطع المحافظون ــ قبل زمن الوهابية ــ أن يقهروه، فكانت التسوية، حُفظت القضية في النيابة، وصدر الكتاب مجدداً في طبعة «منقحة» وعنوان جديد هو «في الأدب الجاهلي» (1927) نسخة حُذفت منها بعض المقاطع لكن المنهج ظل هناك، يطالب القراء بالشكّ والموضوعية والتجريد.
ربما لأنه فقد البصر طفلاً لم تتعرض عواطفه لتأثير «الشَوف». ظل موضوعياً حتى «مع المتنبي». كتابه عن الشاعر العربي الأشهر مليء بالمواضع التي يعدد فيها مؤلفه أنّه لا يحب «شخص» المتنبي ولا سيرته، لكن بين صفحة وأخرى، يشير إلى بيت أو قصيدة للشاعر المذهل، ولا يسعه إلا أن يقول إنّ الشعر العربي لم يأت بمثلها، ولا بمثل صاحبها. «مع أبي العلاء في سجنه»، و«الفتنة الكبرى»، و«الأيام»، و«دعاء الكروان»، كل كتاب حكاية وقضية، سيرة وجدل، فأيّ معركة يخوضها محاربو التماثيل؟