صنعاء | منذ وقت طويل واليمنيّون يعلمون بمرض مطربهم الوطني محمد مرشد ناجي (1929ـــ2013)، بل تأقلموا مع فكرة اعتزاله الفن وغيابه عن الإعلام. لكن يبدو أنّهم لم يتوقّعوا أن يتركهم بهذه السرعة! سلك صاحب «يا أخي في الأسى يا ابن الجنوب»، درباً وحيداً تاركاً وراءه الآلاف ممن رأوا فيه جدارهم الأخير وسط هذه الأيام الصعبة التي يمر بها اليمن السعيد.
«المرشدي» كما سُمّي في اليمن والخليج العربي حيث وضع بصماته على الموسيقى، لم يكن رقماً سهلاً. أنجز الكثير من الأعمال الفنية والدراسات البحثية في الموسيقى العربية أثارت جدلاً كبيراً، وخصوصاً في ما يتعلق بالموشحات الأندلسية وإثبات ارتباطها بالموشح اليمني القديم. حرص ناجي على العمل على إيجاد الأدلة الدامغة على أنّ إيقاعات الغناء اليمني القديم، هي أساس الإيقاع العربي في قاعدته الأولى.
لقّب ابن مدينة عدن بـ«صوت الشعب»، وارتبط بالعمل الثوري من خلال الفن. شارك بصوته في طرد الاستعمار البريطاني من الجنوب، قبل أن ينخرط في العمل السياسي. انتخب ناجي لفترات طويلة في مجلس الشعب (جنوب اليمن سابقاً)، ثم في مجلس النواب اليمني عن منطقته في عدن، بعد إعلان الوحدة اليمنية عام 1990. رغم انهماكه الطويل بالعمل العام، إلا أن الأمر لم يعجبه كثيراً، وخصوصاً في ظل تقدّمه في السن وشعوره بأن هذا النشاط بات معقّداً وسط إشكاليات العمل الحزبي الذي حاول طوال حياته الابتعاد عنه. لطالما فضّل صاحب كتاب «الغناء اليمني القديم ومشاهيره» البقاء بعيداً عن أي حالة استقطاب قد تمسّ بمكانته كـ«صوت للشعب».
انطلاقاً من هذه النقطة، تمتّع ناجي بشعبية جارفة شملت اليمن من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. كان يصعب احتساب «المرشدي» على جبهة سياسية دون أخرى. في أشد الأزمات السياسية التي تصل اليوم إلى حدود التقسيم، بقي الفنان الذي سجّل أوّل أعماله في إذاعة عدن عام 1955 بعيداً عن أي تصنيفات.
حياة ناجي كانت ملأى بالمعاناة، بدءاً من حرمانه إكمال دراسته التمهيدية، مروراً بإصابته بمرض عاقه عن استكمال نجوميته في لعبة كرة القدم التي كان يجيدها بامتياز، من دون أن تنتهي بوفاة أمه الصومالية التي كان يرى أنّها أغلى ما ملك في الدنيا. هذه الكوارث وغيرها حصلت معه في أولى سنوات عمره، وامتدت حتى أيامه الأخيرة.
رحلة المطرب الكبير في طريق الغناء والموسيقى، لم تكن مفروشة بالورود لأنّه اختار أن ينحاز للبسطاء، رافضاً الكثير من الإغراءات التي لو قبلها ــ ربما ــ لكان قد غرق في الرفاهية. يكفي تذكّر العرض الملكي السعودي الذي قدّم له «شيكاً على بياض» ليخصّ المملكة بأغنية، لكنّه سرعان ما رفض وعاد أدراجه إلى اليمن «عاطلاً من العمل». عندما قابلناه في منزله في منتصف عام 2011 (الأخبار 30/5/2011) سألناه: ألم تندم؟ فأجاب: «أنا غير نادم على شيء». غادر ناجي الحياة برأس مرفوع، لذلك لن نقول له وداعاً!