في إطار الحديث عن «الرواية الشبابية»، لا يمكن إغفال شباب وشابات ظهروا أخيراً في المشهد الروائي اللبناني. بالنظر إلى عمرها، لم تعايش هذه الأسماء الحرب الأهلية بشكل مباشر، بل عايشت مآزق ما يسمّى «السلم» أو فترة ما بعد الحرب بكل تمظهراتها النفسية والاجتماعية والمعيشيّة والعاطفية. حكماً، كان لذلك أثر في تشكيل وعي خاص بأنماط الكتابة ومواضيعها لدى هؤلاء الشباب ضمن سياق عام يتحكّم في الأعمال الروائية الجيّدة.
في هذا الحيز، يصبح ممكناً طرح إشكاليات متعددة عن سمات خاصة تتحكم في هذه «الرواية الشبابية» في حال وجدت، خصوصاً الحديث عن قدرة الناقد أو القارئ على تصنيفها في نوع أدبي محدد لجهة اللغة أو المواضيع أو طبيعة الشخصيات وغيرها من الأطر التي تحكم تجارب جيل يختلف بالضرورة عن جيل روائي سابق.
في الاصطلاح، تبقى «الرواية الشبابية» مصطلحاً إشكالياً بالنسبة إلى أغلب الكتّاب. معظم الروائيين الشباب لا يميلون الى تأطير هذه التجارب والحكم عليها وفق معايير عمرية أو كونها تجارب أولى. بحسب الروائي هلال شومان، فـ«الجديد الذي يطرحه الروائي لا يتعلّق بعمره بل بالمنتج نفسه». يضيف: «كثيرون يعتمدون مصطلح «الرواية الشابة» للدلالة على الروايات غير الكلاسيكية في لغتها أو تقطيعها. آخرون يقولون إنّ الرواية الشابة تفتقد حبكة القصة، ما الذي يعنيه هذا فعلاً؟ نجيب محفوظ في هذا المنحى حقّق روايات شابة. يوسف حبشي الأشقر أكثر روائي شاب! رشيد الضعيف أيضاً. كيف يمكن أن يكون الروائي شاباً في كتابات، وكهلاً في كتابات أخرى لأنّها كلاسيكية؟».
هذا المنحى في التفكير تؤكد عليه جنى فواز الحسن (1985) صاحبة «أنا هي والأخريات» المرشحة ضمن القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية (راجع الكادر). برأيها، ليس الأدب «أسطوانة أو سلعة لنحصره في إطار (شبابي) معين. ولو صحّ هذا القول، هل تظهر في المقابل «الرواية المسنّة» و«رواية منتصف العمر؟»». في السياق نفسه، يقول الروائي الزميل أحمد محسن (1984): «لا أؤمن برواية شبابية وغير شبابية. ربما لأننا في عصر الفايسبوك والميديا السريعة، حيث طفرة الكتابة العبثية قد تقود إلى تسميات مشابهة، لكن أعتقد أنّ الرواية هي الرواية. القول بوجود رواية شبابيّة يعطي انطباعاً بأنّ الأخيرة سريعة تراعي النمط الاستهلاكي الذي يتفاقم في العالم». وبعكس الحسن وشومان ومحسن، يرى الروائي سليم اللوزي (1986) أنّه يمكننا الحديث في مكان ما عن «رواية شبابية» تملك «الكثير من المقومات المستقلة التي تمكّنها من منافسة أهم الأعمال الأدبية».
لدى هذا الجيل، يبقى الهاجس الأساسي تجنّب مطبّات أساسية وقعت فيها روايات الجيل السابق. يستخدم شومان صاحب «ليمبو بيروت» مصطلح «التكلّس»، في إشارة إلى روايات الحرب (مواضيع وشخصيات) التي تكاد تحصر نفسها في مكان واحد وتدور في فلك شخصيات مكرورة طبعت تلك المرحلة. في المجمل، يُعتبر وعي كتّاب هذا الجيل بمطبات مماثلة إيجابياً في ضوء ما تشهده «الرواية الشبابية» من حضور متزايد في الأوساط الثقافية. تخرج مواضيعها غالباً عن قضايا وطنية أو نضالية شكّلت أساساً في سرديات الجيل السابق، وتعكس خيبات لا بل متاهات مقفلة في زمن ما يسمّى «سلماً» داخل لغة النص السردية، وتغرق في الذاتية والحفر الداخلي.
الخشية الحقيقية من مآزق رواية هذا الجيل تبدو واضحة في تجربة شومان الذي يتساءل: «ماذا عن رواية الحرب الحالية المتعارف عليها باسم مرحلة السلم الأهلي؟ كيف تروي شيئاً مائعاً كهذا؟ تكاد الروايات «الشبابية» تتكلّس أيضاً. فهي تحصر نفسها في مكان واحد» ويضيف: «لنأخذ المثال الأبرز: شارع الحمرا الموجود في رواياتي وفي روايات أصدقاء، وقد بدأنا ننتبه إلى هذا الأمر». هذا قد ينسحب بالضرورة على أطر أو مؤثرات خارجية تفرض نفسها تلقائياً في المواضيع المطروحة، منها ما هو مرتبط بضغط التقاليد والعادات والمحرمات في زمن تزداد فيه أسئلة المحرم والمقدس. هنا تردف الحسن: «طبيعي أن يفرض الواقع الاجتماعي العام نفسه على لاوعينا. أعتقد أنّ السمة المشتركة بين كتّاب هذا الجيل هو التساؤل عن فرديتنا، لأنّ هذا ما يشغل معظمنا. أين نقف ككيان مستقلّ عن كل أعباء الجماعات؟». هذه الأعباء تسمح بقضم فردانية الكاتب بحسب محسن الذي يضيف «لا يمكن الحديث عن سيكولوجيّة جماعيّة عند الكتّاب، هذا نقيض لفكرة الأدب نفسه».
عملياً، لا يمكن التغاضي عن سمات تطبع نصّ «الرواية الشبابية». يبدو الابتكار واضحاً في اللغة والمعجم المستخدم في بعض الأعمال الصادرة حديثاً. «صانع الألعاب» لأحمد محسن و«ليمبو بيروت» لهلال شومان (1982 _ راجع المقال أدناه) مثالاً لا حصراً. هذه الإصدارات وغيرها أضافت إلى العالم الروائي. في هذا الحيز، يبدو جلياً هاجس السعي الى الفرادة الذي يحرص عليه كتّاب هذا الجيل. لا يميل صاحب «صانع الألعاب» إلى نمط محدد لغوياً أو معجمياً. برأيه، «الرواية ليست لوحة ثابتة. السرد يحرّك ركودها، أو يضاعفه أحياناً لصالح الحبكة. السرد ميزة فردية خالصة، قد يطوّرها الكاتب، وقد يقع في فخ الانجراف خلفها على حساب البنية الصلبة للرواية عموماً». في هذا الإطار أيضاً، يقول اللوزي صاحب «ذبائح ملونة»: «هذه الأعمال «الشبابية» كسرت الصرامة الأدبية التي كان يعتبر كسرها تابو». ويضيف: «برأيي، إنّ الحداثة والتطور التكنولوجي الذي نعيشه أجبرا الروائيين الشباب على إدخال هذه اللغة إلى المعجم العربي للرواية العربية». هذه اللغة التي لا يظهر عليها الخروج أو التمرد كثيراً على البنيات السردية التقليدية للرواية العربية، لكنّها في أكثر من عمل تتجه الى الاستعاضة عن خاصيات تقليدية كالحبكة الروائية والسرد من الخارج بإعطاء فسحة من الحرية للـ«أنا» وتركها على طبيعتها داخل النص، فتكسر حواجز اجتماعية ونفسية شُغلت عنها روايات الجيل السابق. هذا ما يؤسس لفردانية خاصة في أساليب الرواية لدى هذا الجيل. لكن تبقى فردانية نسبية لا تخرج من خلفية الكاتب الاجتماعية أو البيئية. بحسب صاحب «نابوليتانا»، يفتح ذلك نقاشاً حول الذاتية في العمل والقدرة عل التخييل، مستخلصاً: «المسألة عندي غاية في البساطة. هناك وعاء اجتماعي ولغوي ينهل منه الكاتب. بعضهم يطوّر أدواته، وآخرون يلتزمون بما يعرفونه». أما الحسن، فتذهب في التساؤل أبعد من مسألة تطوير الأدوات. تبدو في كتابتها مهجوسة بهم الحرية. تقول: «بقدر ما ينجح الكاتب في تجنيد تعابيره لخدمة المضمون، تأتي الرواية سلسة ومترابطة. الأمر يحتاج إلى البحث في أساليب السرد وتحليل اللغة واستخدام المفردات. هو شأن فرداني فعلاً». وتضيف: «لكن أليس الفرد أيضاً مجموعة انفعالات وتفاعلات مع البيئة الآتي منها؟». وفي حين يبقى نقاش هذه المسألة مفتوحاً، يذهب اللوزي في سياق مغاير نسبياً، معتبراً أنّ «الكاتب يطوّر أسلوب سرده بمعزل عن البيئة والكتاب في أغلب الأحيان، إلا أنّه يتأثر بالكتّاب الذين يقرأ لهم، وخصوصاً الكتب التي يعجب بها، فالقراءة هي تمرين للقدرة على الكتابة».



جنى الحسن

بين خيبات الأب الشيوعي، وتقليدية الأم، تجد سحر ذاتها في انفصال عن الواقع. تصطدم بسور منيع من التقاليد الذكورية، وتتأرجح بين أحلامها وواقعها، ما يولّد صراعاً داخلياً بين رغباتها، وانصياعها المُستسلِم للواقع الاجتماعي. هكذا تستكمل الأحداث في «أنا، هي، والأخريات» (الدار العربية للعلوم ناشرون) الرواية الثانية لجنى فوّاز الحسن المرشّحة لجائزة «بوكر 2012».