كان يمكن ترجمةَ مختارات من يوميات أناييس نن (1903 ـــ 1977) أن تكون حدثاً أدبياً، لكنّ الكاتبة العراقية لطفية الدليمي التي ترجمت هذه المختارات في كتاب «أناييس نن/ اليوميات» (المدى)، أفرغت هذا الحدث من قيمته الثمينة، وجعلته كتاباً عادياً بقيامها بدور الرقيب المسبق على أي مقطع أو سطر يتضمن مادة جنسية أو إيحاءات إيروتيكية. هكذا، بضمير ثقافي مرتاح، حذفت المترجمة ما تقوم الرقابة عادةً بالاعتراض عليه أو حذفه أو منعه من النشر. لماذا؟ لأن كتابات وسلوكيات أناييس نن «في غاية الجرأة والاختلاف مع عاداتنا وسلوكنا ومحرّماتنا، وبالتالي لم أجرؤ على ترجمتها». الغريب أنّ المترجمة (وهي روائية في الأساس) تمرر معلومة مثل هذه من دون أن تشعر بأنها ترتكب سابقة خطيرة في حقل الترجمة والكتابة. بعد ذلك، يسهل عليها أن تقول إنها اكتفت بترجمة «مقاطع تخصّ نظرتها للإبداع وعلاقاتها بالمبدعين ووجهة نظرها إلى الحروب والحركات النسوية...»، داعيةً من يريد أن يقرأ أشياء أخرى مُحرجة لها «أن يبحث عن نصوصها المترجمة، وإن كان يجيد الإنكليزية، بوسعه أن يستمتع بالمجلدات الثماني ليومياتها».

لا تكتفي الدليمي بذلك، بل تضع تمنّعها عن ترجمة متكاملة ليوميات الكاتبة الفرنسية ذات الجذور الإسبانية في باب خشيتها من «الأحكام المسبقة التي تُساق بدوافع معينة، ويُحكم عبرها على المترجم أو المترجمة وكأنه وكأنها متماهيان مع شخصية الكاتبة». ليس على القارئ سوى أن يشفق على هذه التبريرات التي تقع في باب العبث واللامعقول، وتزيد من حراجة موقف المترجمة كلّما أسرفت في توضيح وجهة نظرها المتهافتة.
استبعاد ما هو إيروتيكي لا يُفقر يوميات صاحبة «منزل سفاح القربى»، بقدر ما يكشف «فوبيا» المترجمة التي (ربما) تمثل «فوبيا» شريحة واسعة من القراء أيضاً، لكن ذلك يأتي متأخراً على شهرة هذه اليوميات التي ترجمت إلى معظم اللغات الحية، واحتلت موقعها – كما تنبأ لها هنري ميللر – إلى جوار اعترافات القديس أوغسطين، وجان جاك روسو، ومارسيل بروست. إنها يوميات شخصية، لكنها تلمس كل ما عاشته المؤلفة في بانوراما خصبة لباريس الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وعلاقاتها مع كتاب وفناني وفلاسفة تلك الحقبة الذهبية لظهور أهم التيارات والمدارس الأدبية والفنية. الأهمية الأولى لصاحبة «دلتا فينوس» أنها عاصرت أسماء تلك الحقبة. أحبت بعضهم، وخصوصاً هنري ميللر الذي كان في بداياته حينذاك، ونزلت معهم إلى الحياة السفلية والهامشية. شاركت ميللر كتابة قصص جنسية مقابل دولار واحد على الصفحة، ثم نشرت كتابه «مدار السرطان». كتبت روايات عدة لم تحظَ بالنجاح الكافي، وكان عليها أن تنتظر صدور يومياتها كي تحصل على الحفاوة التي بحثت عنها طويلاً. هناك صفحات عديدة في اليوميات المترجمة، تعود بنا إلى هذه النقطة الإشكالية. لقد انغمست أناييس نن في الحياة التي عاشها مَن نالوا الشهرة والاعتراف أكثر منها، لكن اسمها ظل يُذكر بسبب معرفتها وصداقاتها مع هؤلاء. بطريقة ما، نحسّ بأنها تلذذت بكل ما كان الآخرون يحولونه إلى كلمات واستعارات أدبية. لقد عاشت أكثر مما كتبت. اليوميات هي «الغول الذي افترس رواياتها» بحسب ما قيل عنها.