في كتابه «مارتن لوثر كينغ» الذي صدر في الولايات المتحدة عام 2002 (دار الساقي 2012 ـــ تعريب سعيد العظم)، يُبعد الأميركي مارشال فرادي عن مارتن لوثر كينغ الابن الصورة النمطيّة التي رسمتها له معظم الكتابات التي تناولت سيرته. الأسطورة الذي لم يخضع إلا للتمجيد في ما مضى، يخفي وراءه إنساناً حقيقياً ذا ملامح مختلفة عن رجل الدين والسياسي والناشط الذي كانه. شملت الدراسة التي أتقنها الصحافي الاستقصائي الراحل توثيقاً لمرحلة النضال العرقي في جنوب الولايات المتحدة، منذ الخمسينيات حتى أواخر ستينيات القرن الماضي وكان مارتن لوثر كينغ أحد أبرز صنّاعها. في عام 1964، غنّت نينا سيمون «ميسيسيبي غودام» في «كارنيغي هول» في نيويورك. الأغنية ارتبطت لاحقاً بسلسلة الحركات النضالية والمدنيّة لحقوق السود في الجنوب أدّت إلى عواقب قاسية بحق أبنائه.
اقتيد حينها أكثر من 2500 تلميذ إلى السجون، ووقعت تفجيرات متفرّقة في مناطق الجنوب، أبرزها تفجير الكنيسة المعمدانيّة في بيرمنغهام (ألاباما) راح ضحيّته أربع طفلات.
نجح فرادي في تظهير صورة الجنوب المنبوذ عن أميركا آنذاك، مغنياً إياها بتجربته الصحافيّة التي رافقت العمل النضالي، ومتطرّقاً إلى الظروف الاجتماعية المضطربة، والفصل العنصري بحقّ السود، ورداءة مدارسهم ومساكنهم ومحدودية وظائفهم.
من خلال أربعة فصول ومقدّمة غنيّة وتخصيص فصل لبعض خطابات كينغ («مولد أمة جديدة»، ما بعد فيتنام - أوان كسر جدار الصمت»، «التنظيم الاجتماعي للاعنف»، «حان زمن الحرية»، «رسالة من سجن في بيرمنغهام»، «لديّ حلم»، و«خطاب قبول جائزة نوبل»)، انطلق الصحافي الحائز جوائز عدّة، من نشأة والد مارتن دادي كينغ، الواعظ المستبدّ في كنيسة في مدينة أتلاتنا، ما أدّى إلى تأثّر الابن بهذا الجوّ الكنسي. ترعرع الابن في عائلة من الطبقة الوسطى (أفضل من عائلات السود في ذلك الحين)، مع تربية قاسية وصارمة من والده. تعمّق فرادي في نفسية كينغ الطفل وأطباعه التي احتفظ ببعض منها في كبره، منها شعوره الدائم بالذنب، ما دفعه إلى محاولتي انتحار قبل بلوغه سنّ الـ 13، إضافة إلى انطوائيته، وإحساسه بالمسؤوليّة في المنزل، وتعرّضه لحوادث عنصرية من البيض... كلّ هذه العوامل ولّدت لديه حساً إنسانياً. لكنّ فرادي ذهب أيضاً إلى ملامح خفيّة في شخصية كينغ، منها علاقاته الجنسية وحبّه للنساء، وحبّه للعظمة وللثياب الفاخرة وغروره، ما جعله إنساناً حقيقياً ذا نزوات وأخطاء ورغبات. لا يمكن تناول سيرة كينغ القائد من دون التطرّق إليه كخطيب. ذات يوم، بعد سماعه خطبه في إحدى الكنائس، قال كينغ لأمه «يوماً ما ستكون لي كلمات كبيرة كهذه». تظهر الدراسة أنّ نشأته في جو كنسي مليء بالخطابات والوعظ، وتحصيله الثقافي جعلاه خطيباً مميزاً ذا تأثير كبير على الجماهير. الشاب الذي بدأ بوعظات تجريبية في كنيسة «ابن عازر» في أتلانتا، كان يتدرّب أمام مرآة الحمام على خطاباته، فيما تسلّح بمخزون ثقافي وفكري أغنى خطاباته وقدرته على استيعاب الأفكار العظيمة وترجمتها إلى أفعال. كما تعلّق بفكرة الجدلية (الديالكتية) لهيغل، وتأثر بالمدرسة الفكرية اللاهوتية المسمّاة «المدرسة الشخصانية»، وخلص في النهاية إلى نوع من اشتراكية الضمير المسيحية، وآمن بأن صيغة من الاشتراكية المعدّلة هي الطريقة التي يجب أن تتبناها أميركا لبلوغ المساواة الحقيقيّة.
في عام 1955، حصلت حادثة عنصرية في حافلة في منطقة مونتغومري في جنوب الولايات المتحدة، وكان مارتن حينها قسيساً في كنيسة «دكستر»، يحظى باحترام كبير في مجتمع مونتغومري الأسود. تمثّلت الحادثة في رفض روزا باركس إخلاء المقعد لرجل أبيض. لكن «لا» باركس، كانت الشرارة التي أطلقت نضال السود بشكل فعلي، خاضوا بعدها تجربة مقاطعة الحافلات لسنة كاملة. وترتّب على هذه المقاطعة انتصار حقيقي بعدما أصدرت المحكمة العليا قراراً قضى بأنّ الفصل العنصري في الحافلات في مونتغومري مخالف للدستور. هذا النضال اللاعنفي اكتسبه كينغ من يسوع وغاندي. لم يغيّر استعمال الشرطة للهراوات والكلاب وخراطيم المياه لمواجهة التظاهرات، من قناعات كينغ. واصل الأخير النضال اللاعنفي، مؤمناً بأنّه الطريق الأمثل للخلاص. حتى إنّ الشرطة بقسوتها وسلسلة اعتقالاتها، لم تولّد لديه حقداً أو دعوة إلى الانتقام من البيض، فالدفاع عن الفقراء البيض وعن الأعراق الأخرى المهمّشة في الولايات المتحدة الأميركية شكّلت أولويّة من نضاله.
الشاب الذي قرر أن يصبح قسيساً في عمر الثامنة عشرة لاقتناعه بأنّ الكنيسة مكان مثاليّ لتلبية «نداء داخلي لخدمة الإنسانية»، اكتسب تدريجاً ثقة شريحة كبيرة من السود. لم يكتفِ فرادي بذكر الانتصارات التي تلت تحرّك مونتغومري، إذ أظهر لنا ما لا نعرفه عن نضال كينغ ونضال الجمعيّات المدنية الأخرى. ووثّق أيضاً لمرحلة الفشل بعد حملة مونتغومري. في هذه المرحلة، واجهت الحملة أقسى أنواع الفشل في ألباني تحديداً بسبب العقبات التي وقفت في وجهها، منها موقف مكتب التحقيقات الفيدرالي القاسي، إضافة إلى تدهور حالة كينغ النفسية وخوفه وتردده في رحلته القاسية مع هذا النضال. لكنّ نجاحاً آخر ألحقه في بيرمنغهام بعد إصرار كينغ على سلميّة النضال، رغم تطرّف بعض الشباب في الحملة وتسرعهم. تمثّل هذا في نجاح بيرمنغهام في مقاطعة رجال الأعمال في وسط البلد، ما نجم عنه مشروع قانون المنشآت والخدمات العمومية الذي كان يعتبر في بالغ الأهمية بالنسبة إلى الحقوق المدنية للسود، وما كان ليتحقق لولا حركة كينغ في الجنوب.
هنا يضعنا الصحافي الذي تخصّص في كتابة سير المشاهير، وسط المناخ السياسي الأميركي السائد يومذاك من ظهور المناضل مالكولم إكس، ودعم الرئيس الأميركي جون كينيدي للحملة، وتقديم حكومته لمشروع قانون يلغي الفصل العنصري في المنشآت العامّة إلى الكونغرس. ويتوقف فرادي عند أبرز المحطات والأحداث السياسيّة في الولايات المتحدة، منها اغتيال جون كينيدي، وحرب فيتنام، فيما يقدّم لقاءات شخصيّة وحوارات حيّة مع المقرّبين من كينغ، وشهاداتهم عن تفاصيل حياته غير الظاهرة إلى العلن.
بعدما وجد كينغ نفسه رجلاً ذا وزن دولي، لم يعِق حلمه خوفه من الاغتيال بعد جملة التهديدات وسلسلة الاعتقالات التي طالته وتركت أثراً كئيباً في نفسه، بل أهدى حلماً لأمة بكاملها بعد أكثر من ثلاثة قرون من إذلال السود. حلم لم يستطع أن يبدّده شيء حتى بعد اغتياله ذلك النهار من شهر نيسان (أبريل) 1968 في فندق «لورين» في ممفيس.