ماذا لو لم ينجح ابراهام لينكولن (1809 ــ 1865) في كسب التأييد اللازم لإجراء أهم تعديل دستوري وضع حداً للعبودية في الولايات المتحدة الاميركية؟ ماذا لو لم ينجح في القضاء على الحرب الأهلية وإجبار المتمردين الجنوبيين على التخلي عن نزعتهم الانفصالية؟ ربما كان قد تغيّر التاريخ بأسره. قد لا يحتاج السينمائي الأميركي الأكثر ثراءً على الإطلاق الى اختيار فيلم قضية كي يقدم عملاً يبهر به النقاد والمشاهدين، فالجوائز التي حازها ستيفن سبيلبرغ (1946) خلال رحلته كفيلة بتثبيت ذلك. فيلمه «لينكولن» الذي نزل أخيراً إلى الصالات اللبنانية، دخل المكتبة السينمائية الأميركية عبر إلقائه الضوء على مرحلة مهمّة في تاريخ الولايات المتحدة غيّرت تاريخ البلاد بأكمله، خصوصاً أنّ هوليوود لم تنتج فيلماً عن «أسطورة رئيس الرؤساء» منذ سبعين عاماً، وتحديداً منذ شريط المخرج جون كرومويل Abe Lincoln in Illinois عام 1940.
يعيدنا فيلم سبيلبرغ الى نهاية القرن التاسع عشر ونضال الرئيس (يلعب دوره الممثل دانيال داي لويس) من أجل القضاء على العبودية واعطاء الأميركيين السود حق المساواة أمام القانون. نضال براغماتي بامتياز وفترة مضطربة في تاريخ القارة الأميركية، استطاع المخرج تقديم هذا الصراع على حقيقته من دون أن يسعى الى طمس حقائق تاريخية مهمة. لينكولن ــ كما يظهر في الفيلم ــ لم يكن نزيهاً تماماً في نضاله. لقد انخرط في اللعبة السياسية المكيافيلية، مستخدماً وسائل مشروعة وغير مشروعة للوصول الى غايته، من رشوة أعضاء مجلس الشعب الى الكذب والمناورة، وأحياناً كثيرة الى إزهاق دماء خصومه والتحايل على السلام بهدف الوصول الى استسلام يحفظ البلاد ووحدتها. لم يحد أي عائق من هدف الرئيس المتمثل في إرادته الصارمة في تخليد اسمه في التاريخ على صورة الأبطال. وهذا ما حصل عليه.
اللافت في الفيلم قدرته على تجييش المشاهدين وادخالهم في اللعبة، صانِعاً تشويقاً استثنائياً على حدث كل منّا يعرف نتيجته. عمد الى بناء شخصية جاذبة للرئيس، وبنى خلفيته الفكرية، ودخل في علاقته الشخصيّة المضطربة مع زوجته وولده الأكبر وفي الصراعات المرهقة مع أصحاب النفوذ وصقور الحزب الجمهوري، وحبّه لتلاوة الحواديت والقصص. استعان سبيلبرغ بممثل استثنائي هو دانيال داي لويس الذي ما كان أحد سواه ليستطيع تقديم العمل بالصورة التي قدمها فيها. هكذا، ترشّح الشريط لـ 12 جائزة أوسكار من بينها أفضل ممثل.
لتحقيق غايته أيضاً، عمد صاحب «جوراسيك بارك» الى بناء عالم كامل من الأشهر الأربعة الأخيرة من حياة لينكولن ونضاله من أجل قانون يلغي العبودية قبل أن يلقى حتفه اغتيالاً. وقد يكون بالغ في التصوير داخل الغرف المقفلة، مبقياً الرئيس قابعاً في مكتبه في البيت الأبيض حيناً، وبين خطاباته المتعلقة بالدستور والقوانين المتفرعة عنه في الكونغرس حيناً آخر. لم نر الشوارع إلا في ما ندر، ولم يجهد سبيلبرغ في تقديم عالم خارجي افتراضي من أرض المعركة يحاكي تلك الحقبة التاريخية. لكن جهده الخارجي المتواضع تركّز في مكان آخر. رأينا ديكوراً مشغولاً بحرفية لافتة، ونصاً رائعاً كتبه توني كوشنر، كأنّه كان يحاكم كل من تخاذل في هذه القضيّة حينها. وضع أمامنا كل المحاججات التي أثرت في سيرورة النضال، ليقدم عملاً أقرب الى التوثيق منه الى السرد الروائي. لكنه كان منحازاً، كما فعل في فيلم «ميونيخ» الى موقف سياسي أقرب الى توجهاته ولو كانت توجهاته محقّة هذه المرة.
لعلّ أكثر كلمة تختصر شريط «لينكولن» هي التي استخدمها سبيلبرغ نفسه: «الحميمية». هذه المرة، أراد تصوير محيط هذا الرجل وعالمه الداخلي وشخصيته المركبّة، فاضطلع أداء الممثلين والحوارات بالدور الأكبر في العمل، فيما جاء هاجس التصوير وزوايا الكاميرا في المطاف الأخير. في إحدى مقابلاته، شبّه سبيلبرغ نفسه في هذا الفيلم بسيدني لوميت الذي ارتكز مشروعه على التركيز على أداء الممثل والنقاط القوية في السيناريو، فتعاون طوال مسيرته مع أسماء كبيرة في عالم كتابة السيناريو، وامحى لصالح هذه العناصر. سبيلبرغ نفسه قال: «كان «لينكولن» المكان الوحيد الذي امحيت فيه كمخرج وتواريت في الظلّ». «لينكولن» أحد أجمل الأفلام التي تعرضها صالاتنا اليوم. ومن المتوقّع له أن يحقّق لسبيلبرغ ما لم يحققه له فيلمه الرائع War Horse، فنراه متوّجاً بأكثر من جائزة أوسكار في ليل الرابع والعشرين من الشهر الحالي.

«لينكولن»: صالات «أمبير» (1269)، «غراند سينما» (01/209109)



فيلمان عن العبودية

قبل «لينكولن»، أنجز ستيفن سبيلبرغ شريطين تناول فيهما موضوع العبوديّة والعنصريّة: الأول هو The Color Purple (1985) الذي نقل المعاناة العنصريّة التي واجهت جيل من النساء الأميركيات الأفريقيات في بداية القرن العشرين والعمل مقتبس عن رواية الكاتبة المعروفة أليس ووكر. كما استند فيلمه «أميستاد» (1997) إلى قصة حقيقية حول أبرز قضايا تجارة الرقّ في إفريقيا في منتصف القرن التاسع عشر.