في باكورته «على سرعة 40» (فضاءات ـــ عمّان)، يسمح محمد هديب (1965) بحضور حساسيات وتقنيات مختلفة في قصيدته. إنها قصيدة قصيرة غالباً، لكن هذا لا يعني أنها محكومة برُهاب الحذف والاقتضاب. وهي قصيدة مَرِنة أيضاً، ولكن ذلك لا يعني أنها رخوة وغير منضبطة. نقرأ المجموعة، ونحس أنّ صاحبها متخفّف من الشعرية الصافية لصالح شعرية يتدخل فيها السرد العادي والمزاج الساخر والرغبة في تمرير نكتة أحياناً. هكذا، يستعيد الشعر بعضاً مما فقده في الكتابات المتجهمة أو المنعزلة في فضاءات لغوية صافية ومنحوتة نحتاً. لا يخترع الشاعر الفلسطيني شيئاً جديداً، ولكنه _ بطريقة ما _ يتهكّم على الوسواس القهري لدى البعض في تنظيف القصيدة من أي شيء وجداني أو مضحك أو مشجِّع على الشتيمة والسخرية. يبدأ ذلك من العنوان الذي يطيح وقار العناوين وجديّتها، ويستمر في عدد من قصائد الديوان، إلا أن إنجاز قصيدة جيدة يظل هاجساً ملازماً لكل ذلك. قد يتحدث الشاعر عن «كاتب النص المفتوح/ الذي لا يُحسن طبخ الملوخية/ الروائي الواقعي/ الذي يزعم أنه خيرُ من يتذوّقها/ كاتب القصة القصيرة جداً/ الذي يأكلها/ أبطأ من شاعر النثر»، ولكن «الملوخية» لن تمنع أن هذه السطور مكتوبة بطرافة وذكاء، ولن تمنع الشاعر من كتابة سطور ومقاطع أخرى مصنوعة من الأسى والألم

، كما حين يكتب: «التشيللو ليس أباً للكمنجات/ ألا تراها أيها العازف/ مثل سيدة قوية الشكيمة/ وتدقّ ساقها الوحيدة في الأرض/ وتُعولُ البنات الصغيرات؟»، أو حين يُنجز استعارة شعرية صافية: «غيوم آذار ترعى فوق التلة/ ولا يزجرها اليوم رعدٌ»، أو حين يخلط مشهداً يومياً كركوب السيارة مع الألم المكتوم للمسافر نفسه: «يا سائق التاكسي/ لا تدعْني وشأني/.../ في المقطع الجانبي لوجهي/ ترى أذني اليسرى/ أذني التي تُطرطق/ لا أسمع إلا أرباع الجُمل/ وأهزّ رأسي موافقاً على ما تقول/ فاستمرّ قدر ما استطعت/ كي أفيق من نومي/ وعلى رأسي حبة ماء/ أفركها بيدي/ وأفرك رحيلها».
القصد أن الشاعر يترك شقوقاً وتصدعات في نصوصه حتى إن تسبب ذلك بخلق تفاوت في جودتها. أحياناً نظن أن هذا متأتٍ من تصالح الشاعر مع ما يكتبه، ومن تسرّب الكتابة السردية والصحافية إلى القصيدة. أحياناً يكون التفاوت بين قصيدة وأخرى، أو داخل القصيدة الواحدة. في الحالتين، يبدو ذلك مقبولاً في ديوانٍ أول لا يشبه الدواوين الأولى، كما أن مزاج الشاعر ولغته المتماسكة ومخيلته النشيطة تجعل ذلك جزءاً من الحالة الشعرية. مزاج مثل هذا يمكن أن يدعونا إلى جملة مثل: «أتمخّطُ في المحرمة/ كمن يتدرّب على البوق»، أو «يا مذيع نشرة الصمّ والبكم/ أَعِدْ لي بربّك/ كيف ترسُمها/ كلمة: قنَّاص!»، ولكنه قادر على إنجاز قصيدة مختلفة جداً عن إصغاء الكائن البشري إلى الأصوات الضعيفة: «خرفشةُ الجريدة في الثانية بعد الزوال/ زحْفُ القهوة قبل أن تفور بقليل/ الفوطةُ إن كانت تجرّ تحتها حُثالة خبز/ أو سمسماً سقط من الزعتر/ حين يُخرج الكائن من رفّ المكتبة/ ديواناً من القطع الصغير/ حين يُخرج الجزء الثالث من لسان العرب/ حكُّ الجلْد مباشرةً بعد أن يقصّ أظفاره/ «تِكْ» لمرة واحدة/ حين تخرج من مخبئها/ حبة البنادول».