القاهرة | هل الثورة هي تنحّي الرئيس وانتصار الشارع؟ في 11 شباط (فبراير) 2011، كانت الإجابة نعم، إذ رحل حسني مبارك وتمكّن الشعب من إسقاط النظام. لكن مهلاً، من قال إنّ مبارك هو النظام، وحوله هم الفاسدون فقط؟ بعد عامين على «ثورة 25 يناير»، ما زال المصريون يواجهون السؤال نفسه: متى يسقط النظام؟ مع رحيل مبارك بدأت الخدعة تنكشف تدريجاً. يوماً بعد يوم، لا شيء يتغير، ومن كان في ميدان التحرير يوم النصر، واحتفل مع الملايين ثم غادر القاهرة وعاد إليها بعد عامين، سيدرك بسهولة، من خلال شاشات التلفزيون والسينما، لماذا يتمسك شباب التحرير بعبارة «الثورة مستمرة» مع كل إشراقة شمس.

«ماسبيرو» عصيّ على التغيير

«الكذب حصري في التلفزيون المصري». شعار شهير رفعه الثوار في ميدان التحرير طوال أيام الاعتصام التي سبقت تنحّي حسني مبارك، يوم كان التلفزيون المصري ينظّر في «خيانة الشعب والثورة»، والأدوات بسيطة: كاميرا مثبتة طوال الوقت على جسر أكتوبر، ونهر النيل الخالي من المارة، علماً بأن الملايين يعتصمون على بعد خطوات منه في قلب القاهرة.

منع الثوار التلفزيون المصري وكل مقدّمي البرامج الحوارية المؤيدين لمبارك من دخول الميدان، وذهبوا حين سقط الديكتاتور إلى حصار «ماسبيرو» (مبنى التلفزيون المصري) وطالبوا بتطهيره. لكن سلمية الثورة حالت دون ذلك، وظن الثوار (عن حسن نية) أن مبنى الـ40,000 موظف حفظ الدرس جيداً، ولن يتنكر للشعب مرة أخرى، إلا أنه سرعان ما تغيّرت الأحوال بعد أيام قليلة من انتقال مبارك إلى منفاه الاختياري في شرم الشيخ، وبات واضحاً أن المجلس العسكري يريد احتواء الثورة، وأنّ فلول النظام السابق ما زالوا حاضرين في خفايا الأمور، كما أن الفصيل الأكبر في المعارضة (جماعة الإخوان المسلمين) مستعد للتفاهم مع قادة المرحلة الانتقالية. هنا نكص «ماسبيرو» على عقبيه وخضع لسيطرة وجوه جديدة مستعدة لخدمة نظام «المجلس العسكري»، خصوصاً مع عودة الروح إلى ميدان التحرير. بقي المبنى من دون وزير إعلام لأسابيع عدة بعدما توهم الجميع أن أنس الفقي هو آخر وزير إعلام في تاريخ مصر، خصوصاً بعدما دخل السجن مع رجال مبارك. لكن أسامة هيكل وصل إلى قمة المبنى المطل على النيل وغادره موسوماً بفضيحة «التحريض على المتظاهرين الأقباط» في مذبحة أيلول (سبتمبر) 2011 التي ما زال ينفي ضلوعه فيها حتى الآن (الأخبار 11/10/2011). غادر هيكل وكان المجلس العسكري متمسّكاً به مع التغيير الحكومي في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، في دلالة واضحة على أنّ الإعلام سيظل تحت سيطرة الفئة الحاكمة. غير أن أحمد أنيس خلف هيكل نجح في إحداث توازن استفاد فيه من دروس الماضي لبعض الوقت إلى أن تغيّرت الحكومة مجدداً بوصول أول رئيس منتخب. وفي غضون ذلك، تم اختيار صلاح عبد المقصود وزيراً للإعلام، وهو منتم صراحة إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، في تأكيد لنية النظام السيطرة على الإعلام. وفي ظل الفشل السياسي لنظام الرئيس محمد مرسي وحكومته، كان طبيعياً أن ينتهج عبد المقصود سياسات سلفه أنس الفقي، إذ شكّل «قائمة ممنوعين» مرنة تتمدد وتنكمش بحسب الظروف. وفي عهد عبد المقصود، كان واضحاً أنّ الهجوم المباشر على «الإخوان المسلمين» مرفوض، كما تم تحويل «المهاجمين» إلى التحقيق بصفة دورية، فيما فشلت التظاهرات التي نظّمها إعلاميّو «ماسبيرو» حتى الآن في أن تأتي أُكُلها، وبقي الشعب الخاسر الأكبر، إذ انصرف كلياً عن تلفزيون جمال عبد الناصر. ولأنّها ثورة سلمية وليست انقلاباً، سيظل التلفزيون في قبضة من يدير الأمور حتى يصل الثوار إلى السلطة، وهو أمر يبدو بعيد المنال حالياً. استمرت الأسلاك الشائكة حول «ماسبيرو» في حماية من في داخله من طوفان المتظاهرين الوارد تجدده في أي لحظة، وسط استمرار الاحتقان الشعبي والدعوات المتتالية للتظاهر، خصوصاً مع بلوغ الثورة عامها الثاني. غير أنّ تصاعد الاحتجاجات من داخل المبنى نفسه منذ وصول عبد المقصود إلى قمة الإعلام المصري، يشير إلى أنّ سيطرة «الإخوان» عليه لا تزال غير مكتملة، خصوصاً أن بعض العاملين في مبنى التلفزيون تعلّموا الدرس وقرّروا عدم الهجوم على الثورة مجدداً. ورغم أنّ غالبية المحتجين يعارضون حكم «الإخوان»، قد لا يرفضون أي نظام ديكتاتوري آخر، بدليل استجابتهم للتعليمات طوال فترة حكم العسكر، ما أسهم في وصول البعض إلى اقتناع بأن «ماسبيرو» سيظل آخر القلاع التي ستدخلها الثورة عندما تصل إلى خط النهاية.

المحطات الخاصة في المتاهة

قبل الثورة، كانت قناة «الجزيرة» القطرية تُتَّهم كل فترة بالتدخل في الشؤون المصرية. أما الآن، وبعد ستة أشهر من اعتلاء مرسي كرسي مبارك، باتت التهمة تلصق بالقنوات المصرية الخاصة. لا شيء تغيّر، فالكل في حسابات «الإخوان المسلمين» سواسية: «من ليس معي، فهو ضدي». يؤكد الواقع أنّ أياً من القنوات ليست قادرة على إعلان انحيازها إلى النظام علناً، وإلا فقدت كل جمهورها. وعلى أساس هذه القاعدة، الذين يشاهدون قناة «مصر 25» التابعة للإخوان هم مؤيّدو مرسي ومحبّو الجماعة فقط، المستعدون لتصديق كل ما تبثّه المحطة، بينما يتحوّل «المفكرون» إلى القنوات الخاصة، بما فيها تلك المتهمة بتبعيتها للنظام السابق. وفي وقت تفرض فيه حكومة مرسي على المصريين البسطاء شراء الخبز بالكوبونات (3 أرغفة يومياً لكل مواطن)، هل من المنطقي أن يخاصم المشاهد قناة تفنّد تجاوزات مرسي لمجرد أنها كانت منحازة إلى مبارك قبل عامين؟ الواقع يقول إنّ الكل مرّ بتجارب قاسية منذ اندلاع الثورة. فالقنوات الخاصة المملوكة من قبل رجال أعمال مستفيدين من نظام مبارك، حاولت منع الانتفاضة من الاستمرار، قبل أن تنحاز إليها حين باءت محاولاتها بالفشل. وفور سقوط مبارك، صارت لكل قناة سياسة خاصة تتوافق مع مصالح مالكيها ومواقف إعلامييها. بالتالي لا يمكن وضع الكل في بوتقة واحدة، ومَن رحّب بالتظاهر لمنع توفيق عكاشة مالك قناة «الفراعين» من الظهور، عاد وندم عندما استهدف الأسلوب نفسه «مدينة الإنتاج الإعلامي» كلها، بعدما خاصمها النظام وأرسل رجال الشيخ السلفي حازم صلاح أبو إسماعيل للضغط نفسياً على الإعلاميين لإمرار الدستور المثير للجدل الشهر الماضي. التوتر هو سيّد الموقف على الساحة الإعلامية المصرية. «دريم» أقفلت قبل أن تعاود البث بحكم محكمة، فيما أعلنت «سي. بي. سي.» صراحة أنّ مالكها محمد الأمين تعرض لتهديدات، بالتزامن مع تخلّي رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، ولو صورياً، عن «أون. تي. في.» حتى يؤمن على استثماراته. أما قناة «النهار» فتعدّ الأكثر قدرة على الموازنة بين النظام والمعارضة حتى الآن، في الوقت الذي أصبحت فيه قناة «التحرير» التي حملت اسم الميدان، مجرد شاشة باهتة بلا نجوم. إذن، الحرب ستظل مستمرة بين النظام والقنوات الخاصة، في جولات من المعارك يحاول فيها كل طرف الدفاع عن مواقفه، فيما القنوات بحاجة إلى مساندة الشارع الذي لو نجح الإخوان في استقطابه، فسيلتهمون أي إعلام معارض، خصوصاً أنهم ورثوا من مبارك ترسانة قوانين مقيّدة للحريات. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ محمد مرسي تفوّق على كل حكّام مصر في ملاحقة الصحافيين بتهمة «إهانة الرئيس»، وفق ما أعلن تقرير أصدرته أخيراً «الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان» (الأخبار 21/1/2013). للأسف، باتت الثورة مجرد عامل مساعد في هذا الصراع حتى الآن. وباستثناء ظاهرة الإعلامي باسم يوسف، مقدم برنامج «البرنامج» (مساء الجمعة على قناة «سي. بي. سي.»)، لم يفلح أيّ من البرامج الجديدة في الوصول إلى الجمهور بعد الثورة. بقي كل الإعلاميين المؤثرين على حالهم على الرغم من أن بعضهم محسوب على التحرير لكنهم في النهاية محكومون بالمنظومة العامة. في بلاد النيل، لا إعلام يدافع عن الثورة، بل قنوات خاصة تخشى مصيراً أسود إذا انحازت إلى النظام الحالي من دون أن ننسى أنّ مرسي ليس مبارك: الإخوان لا يريدون رؤية سوى «رجالهم» يحتلون الشاشات.

حسابات القنوات العربية

بما أنّ التلفزيون المصري كان غائباً ومعظم القنوات الخاصة تعاني الارتباك وقلة الإمكانيات خلال الثورة، اتجه المصريون إلى القنوات الإخبارية كـ«العربية»، و«الجزيرة» و«بي. بي. سي.»، و«الحرة»، وكان واضحاً قرب «العربية» من النظام مبارك، فيما اتّسمت تغطية زميلتها القطرية بحماستها للثورة. يومها كانت «الجزيرة» «شاشة الثورة» بلا منازع، دافع عنها ميدان التحرير طويلاً، خصوصاً في أيلول (سبتمبر) 2011 حين منعها أسامة هيكل، وزير إعلام العسكر، من البث المباشر. وبقيت المحطة الأولى في تغطية الحدث المصري رغم محاولات المنافسين اللحاق بها، قبل أن تخرج «الحرة» سريعاً من السباق، وتعود «بي. بي. سي.» إلى رزانتها المعروفة، فيما تجاهد «العربية» للصمود في ظل معارضتها لنظام مرسي. لكن «الجزيرة» قرّرت ــ للأسف ــ الذهاب في الاتجاه المعاكس لتتحول تدريجاً إلى «قناة مرسي والإخوان»، ما دفع بعض النشطاء إلى التحذير من عدم التوازن في التغطية. مخاوف هؤلاء اتضحت سريعاً، وساهمت قدرة القنوات الخاصة على مواكبة الحدث في حماية الجمهور من اللجوء الاضطراري إلى الشاشة القطرية التي باتت بحاجة إلى إعادة الحسابات حتى لا تتحول في نهاية المطاف إلى «الجزيرة مسجّل مصر»!