القاهرة | ما الذي أنجزته الثورة؟ السؤال واضح، والإجابات غامضة والمستقبل مفتوح على احتمالات كثيرة، والمبدعون الذين ناصروا الثورة هم الأكثر تشاؤماً من مسارها بعدما باتت حريتهم على المحك. يستعيد المثقفون في جلساتهم نماذج لثورات تعثرت وأخرى أكلت أبناءها. بل إنّ بعضهم يريد إعادة الاعتبار إلى مثقفين بدوا أكثر حكمة يوم خافوا من زحف الجماهير التي كانت تتعطش لمنابر، جائعة للوعظ لا للوعي. خوف المثقفين نابع من أن المقعد الذي شغله أحمد لطفي السيد في الجمعية التأسيسية التي كتبت الدستور عام 1923 آل إلى أحد مشايخ السلفية ومحترفي فتاوى «إرضاع الكبير». الشباب الذي صنع بثورته بلغة سياسية جديدة، فوجئ ببلاغة رئيس أتت به الثورة. بلاغة مولودة من رحم لغة خشبية تقوم على مجاز عاجز، يتعثر صاحبها بمفردات راكدة، فيطلق خطابات لا تنتج المعنى، ولا تسعى إليه. أما الجموع التي ألهمها «ميدان التحرير»، فصارت تنفر منه وترثي لحاله بعدما تحول إلى معلم عاطل من العمل، وأمست الشوارع التي تؤدي إليه متشحة بالسواد، تشبه الأرامل اللواتي ينفرن من الضوء والصخب، ويجلسن باكيات تحت ضوء خافت. الفوضى تأكل المدينة بكل تفاصيلها، وترسل أبناءها إلى موت متكرر في سبيل خطوة غامضة، ومستقبل ملغوم، في بلد ينضح بالاستبداد الذي ظن كثيرون أنه سقط قبل عامين. يعترف المبدعون بأنهم يوم سعوا لرصد تجاربهم عن الثورة وتوثيقها كانوا أسرى لحظة رومانسية، تشبه النوافذ المفتوحة على شمس ربيعية، لكنها أصبحت الآن مواربة تتأمل حواراً بين نقيضين. حسم هذا الصراع يحتاج إلى ابتكار نص جديد بديل عن النص الذي فاض بالأمل، رغم أنّ الثورة مستمرة والخيال الذي أنتجها لم يبلغ التقاعد والصورة صارت أوضح. بعد معركة سقوط الإعلان الدستوري، واقتراب رسوم الغرافيتي من قصر الرئاسة، شعرت القوى المدنية بسحر تماسكها وجاءت معركة الدستور الهزيل لتؤكد هذا المعنى، وتزيد الحاجة إلى طرح السؤال الأساسي: ماذا حققت الثورة للمبدعين؟
الجواب واضح. رئيس الجمهورية خاف أمس من خوض أوّل مواجهة مع المثقفين، فلم تفكر رئاسة الجمهورية في دعوة المبدعين كالعادة إلى لقاء الرئيس في افتتاح «معرض القاهرة للكتاب». إنها الحقيقة التي أقرتها الثورة: الرئيس خائف و«الجماعة» التي يستند إليها تهتز كبيت قديم أمام الزلزال. من جهته، بدا المثقف يحدوه الأمل مجدداً، ويحلم باسقاط النظام المحتمي باستبداد جماعة تحكم باسم الدين. فرح المثقف بنزول فنونه إلى الميادين، فخرج من الغرف المغلقة بالتزامن مع بروز إشارات إلى أن الإنتاج الثقافي لم يعد حكراً على الدولة. ثمة بدائل أتاحتها الثورة لا الدولة، مثل جماعة «مصرين»، و مشروعي «حصالة» للانتاج السينمائي، و«ميديا بلدي». كلها تمدّ لسانها للدعم الحكومي، ولا تسترضي سلطة. تبحث عن المواطن خارج قبيلة النخبة! تريد إعانته وهو يتحدث في حافلة حكومية عن «سقوط هيبة الجماعة». اليوم، لم يعد السؤال كما كان سابقاً «هل أنت مع الدين أم ضده؟»، بل صار «هل أنت مع الاستبداد أم ضده؟». أيّاً كانت الإجابة، يبقى الثمن المدفوع كبيراً، غير أن بشارات الأمل تلمع كجوهرة ثمينة فوق رف بعيد!