مجلّة «الآداب» مغامرة تصل حدّ الجنون. والجنون طبعاً أن تصمد مجلّة ثقافيّة عربية لم تأخذ ليرة (دولار بالأحرى) من مال نفط أو نظام، ولم ينمُ لحم أصحابها من تخمة تبرعات المنح الأوروبي والغربي، في زمن اجتثاث العقول.
لم يكن المال مشكلة سهيل إدريس يوماً، ولا سماح إدريس من بعده. أصلاً، «الآداب» تخسر منذ أكثر من أربعين عاماً، باستثناء السنوات القليلة التي أعقبت صدورها. صمدت «الآداب» أكثر ممّا يلزم، أكثر من كلّ مشاريع أولئك الذين يتحيّنون اللحظة التي يتوقف فيها آخر صرح ثقافي عربي عن رفع صوته.
قبل يومين، صدر العدد الأخير من مجلة «الآداب»، حاوياً ثلاثة ملفّات غنية: «المسألة الطائفية في سوريا»؛ «فلسطينيو سوريا في ظلّ الثورة» و«إبداعات مغربية»، وشمل العدد حواراً مع المفكر صادق جلال العظم بشأن الوضع في سوريا.
كتب سماح رئيس تحرير المجلّة منذ عام 1991 (بقي سهيل إدريس رئيساً لتحرير «الآداب» من عام 1953 إلى 1991) آخر افتتاحية له «الآداب: نحو عهدٍ ثالث» من دون حزن. لماذا يحزن؟ علامَ يحزن؟ «الآداب» ليست عزيزاً يفقده وحده أو آل إدريس، ليست مالاً أو إرثاً ماديّاً، ليست ولداً أو زوجاً أو حبيباً. خسارة «الآداب» مؤشّر على هزيمة شعب كامل يتخلّى عن كل شيء يمت إلى الثقافة بصلة.
يجلس سماح على مكتب الدكتور سهيل، والابتسامة لا تفارق محيّاه. رسم للدكتور سهيل، وسفينة خشبيّة صغيرة تنقذ المكتب من عجقة الكتب والأوراق. لم يعلّق سماح شهاداته العلميّة أو شهادات والده على الحيطان. شهادة الدكتوراه (دكتوراه في الدراسات الشرق أوسطية من «جامعة كولومبيا» في نيويورك) تقبع في مغلّف أزرق مرّ عليه الزمن داخل درجٍ في المكتب، «أمي صرلها 20 سنة بتقلّي علّقها» يردف سماح.
قرار توقّف «الآداب» بالنسبة إلى سماح هو بمثابة فرصة لإعادة العمل على المعجم العربي ـــ العربي الذي تفرّد بالعمل عليه عام 1995، كما زيادة إنتاجه في أدب الأطفال والناشئة والنقد. يقول: «الأزمة ليست في مصير «الآداب»، بل في مصير المجلّة الثقافية الورقيّة، وحتى الكتاب الورقي بحدّ ذاته». لا يخفي ألماً مريراً يختلج في صدره، «تظنّ أنّك تخدم جيلاً جديداً في هذا النوع من الكتابة. «الآداب» تكتب في السياسة والأدب والقصّة والشعر والأبحاث الفكريّة، لتكتشف لاحقاً أنّ هذه المساحة المخيفة لا تقرأ، هل نشحذ عقولاً؟». قد تكون النزعة الاستهلاكية السائدة هي المسؤولة عن شلل القراءة، فلا الأنظمة تريد تعزيز الثقافة، ولا الأحزاب القومية واليساريّة تقرأ أكثر من بياناتها، وبالطبع لا يمكن التعويل على الإسلام السياسي لإنتاج حالة ثقافية، فكيف بقيت «الآداب» إذاً كل هذا الوقت؟ لا يُنكر سماح أنّ ««الآداب» صدرت لتواكب مشروعاً سياسياً عربياً بدأ مع ثورة الضباط الأحرار في مصر. كانت «الآداب» رديفاً ثقافياً لهذا المشروع السياسي تعبّر عنه». واستمرّ هذا المشروع وقتاً في النهوض مع اشتداد عصب التيارات القومية واليسارية في العالم العربي، «اليوم هذا المشروع إلى انحدار، وبالتالي المجلة تعبّر عن مشروع منحدر».
لا يمكن «الآداب» أن تراعي السائد. عم تكتب المجلّة إذاً؟ هل تطبّل للأنظمة الراحلة وتزمّر للآتية؟ أم تهلّل للتمذهب والانطواء داخل علب الطوائف؟ «إذا أردت أن تبيع، فعليك أن تراعي السائد» يضحك سماح على من يأتون بنصيحةٍ كهذه «من قال إنّني أريد أن أراعي السائد؟ لماذا أنشر إذا كنت أريد أن أراعي؟ «الآداب» تطبع لأنها ثورة على السائد». لا ينسى أن يذكر الأزمات الأخرى التي ألمّت المجلة في الفترة الماضية، «الحرب على العراق قطعت طريقاً مهماً على المجلّة، وعلى الكتاب العربي والسوق الثقافي عموماً، ثمّ ليبيا والآن سوريا، كذلك فإننا لا يمكن أن نعتمد على السوق السعوديّة لأنها ليست سوقاً للأدب الحديث». ولمقصّ الرقيب حكاية أخرى، فـ«بدل أن تختفي الرقابة، ها هي تشتدّ مع تغيّر الأنظمة واستعار الحراك في الوطن العربي».
سماح صمد أيضاً كما «الآداب». فقد الرجل والده الدكتور سهيل، وقدوته الحكيم جورج حبش، خاض تجربة الطلاق الصعبة وأوقف «الآداب». سماح سيأخذ استراحة محارب الآن، ومن يدري، قد تعود «الآداب» إلى مغامرة جديدة، كمجلّة إلكترونية، في مخاض جديد من الثورة على السائد.