تتوقف مجلة «الآداب» في غير زمن صعودها وتألقها. الأمر يشبه أن يستمر لاعب موهوب في الملاعب رغم هبوط مستواه، بدل أن يعتزل في اللحظة التي لا يزال يحظى فيها بإعجاب الجمهور. المجلة المعمّرة ليست الملومة الوحيدة في هذا التوصيف المحزن. الزمن تغير، وكذلك الأفكار وأشكال الكتابة والنشر. لم يعد الزمن زمن مجلات شهرية وفصلية. الحياة الثقافية باتت أسرع من الإيقاع البطيء للمجلات. النشر الورقي نفسه مهدَّد بالكتاب الإلكتروني، بينما الصفحات الثقافية اليومية باتت عاجزة عن مواكبة زمن الفايسبوك والمدوّنات الافتراضية. هذه عيّنة من الصعوبات الهائلة التي عانتها مجلة الراحل سهيل إدريس من أجل الاستمرار، لكن انحسار القراءة الجادة خذل المجلة أكثر من أي شيء آخر، بحيث بدا كأنّ المجلة في سنواتها الأخيرة كانت تخاطب أقلية في طريقها إلى الانقراض.
تأسست «الآداب» في زمن صعود الفكر القومي، وحقبة الاستقلالات العربية التي طُعنت بنكبة فلسطين. وكان صاحبها معتدّاً بظهورها بعد عام على ثورة يوليو عام1952. عاشت المجلة زمن الأحلام الكبيرة، وكانت أحد صانعي هذه الأحلام في الدعوة إلى كتابة ممرغة في وحل الواقع العربي، وملتزمة بهموم القارئ/ المواطن. جمعت المجلة بين الالتزام والحداثة، وسعت منذ البداية إلى أن تكون عربية وعروبية ومنفتحة على العالم. ربما يختصر كثيرون المعارك السياسية والثقافية التي خاضتها المجلة بمعركتها مع مجلة «شعر»، وبعدها مع مجلة «حوار»، ولكن المنجزات التي حققتها تتجاوز ذاك السجال إلى التفاصيل الثرية والمتجددة التي راحت تتراكم من عدد إلى آخر، صانعةً المجد الحقيقي للمجلة التي تربّى على صفحاتها مئات الكتاب والشعراء والنقاد. لقد منحت «الآداب» شهادات ميلاد لهؤلاء، وكان مجرد ظهور اسم أحدهم فيها علامة على الموهبة والجدارة. لعل الأحياء من هؤلاء هم الأكثر تأثراً بتوقف المجلة التي لا تزال ديونها تطوّق أسماءهم الشهيرة. لقد غطّت المجلة حتى على حضور صاحبها الذي عُرف بلقب «صاحب الآداب» أكثر مما عُرِّف بعناوين رواياته وترجماته.
بتركةٍ ثقيلة وخصبة مثل هذه، حاول إدريس الابن أن يجمع بين خط المجلة وبين تطويرها. لم يخلُ الأمر من معارك إضافية حول الرقابة والسلطة والطائفية، ومعارك أخرى لتعزيز مقاطعة إسرائيل. في الأثناء، نُشرت ملفات عديدة عن الشعر والرواية وأسئلة «الربيع العربي». هكذا، ظلت المجلة وفيّة لخطها التأسيسي، مع تعديلات شكلانية وتحريرية لمواكبة التغيرات الجديدة. رغم ذلك، ظلت المجلة تخسر معركة بقائها أكثر من خسارتها على الصعيد المادي، وبات عليها أن تتوقف بسبب تقطّع علاقتها بالقارئ. هل استمرت المجلة في الصدور بعد اكتمال مشروعها؟ وهل كان المطلوب أن تتوقف قبل الآن؟ هل كان الأفضل أن تستمر بصيغة جديدة وخطة تحريرية مختلفة؟ أسئلة ستظل بلا إجابات شافية، بينما يبقى لنا ذلك الأسى الذي يصنعه الفقدان. فقدان مخصص لمن عرفوا المجلة، ولمن مثّلت جزءاً من أحلامهم وأوهامهم. أما أغلب القراء الجدد، فلعلهم لن ينتبهوا إلى غياب «الآداب»، وهم يواصلون تفضيلهم المعلومة الغوغلية على المصادر الحقيقية للثقافة.