في روايته «ساعة التخلّي» (الساقي)، يتجاهل عباس بيضون استثمار سيرته الذاتية. لا تحضر شذراتٌ ووقائع حقيقية منها كما كان الحال في روايتيه «مرايا فرانكنشتاين» و«ألبوم الخسارة». يغيب الشخصي والمتذكَّر في روايته الجديدة، ويبدو صاحبها كما لو أنّه قرر مواجهة القارئ عارياً من السيرة التي كانت (مع النبرة التي كُتبت بها) سلاحه السردي الأكثر فتكاً وإدهاشاً. ها هو إذن «يتخلى» عن سيرته التي احتسبها كثيرون استثماراً روائياً مضموناً وآمناً. مفردة «التخلّي» الموجودة في العنوان يمكن سحبها على النص كله. لقد تخلى صاحب «تحليل دم» طواعية عن «شبكة الأمان» التي وفَّرتها سيرته، وانتقل إلى ملعبٍ غير ذاك الذي برع فيه.
لم تعد لعباس بيضون علاقة مباشرة بروايته الجديدة، لكن ذلك لم يمنعه من كتابة رواية متماسكة ومقنعة. لقد غامر باختراع رواية كاملة، ونجح في ذلك، لولا أنّ هذا النجاح يبدو مفتقداً أحياناً لتلك التفاصيل الصغيرة والحميمة التي قرأناها في روايتيه السابقتين. لا نريد من الرواية أن تكون مدونةً أبديةً للسيرة الذاتية طبعاً، ولكن غياب السيرة غيَّب معه فكرة أن تتألف الرواية من تفاصيل وحوادث ونثريات لا من تقنيات أسلوبية ومخططات سردية. هناك بناء قوي للشخصيات الرئيسية الأربع في الرواية، وذكاء لافت في ربط علاقات هذه الشخصيات التي تعيش في مدينة جنوبية (صور)، مع زمن الرواية الذي يبدأ بالاجتياح الإسرائيلي عام 1978. تنجو المدينة حين تسحب التنظيمات الفلسطينية مقاتليها تفادياً لمعركة غير متكافئة، بينما تظهر جماعة دينية باسم «اليقظة» الدينية كبديل محلي في حال دخل الإسرائيليون إلى المدينة. نكاد لا نجد عيباً ولو صغيراً في بناء الرواية. لا يمنحنا بيضون حجةً قوية ننتقد بها عالم روايته. المؤلِّف هنا هو مثل شخصية «نديم السيد» الذي يصفه «بيار مدور» بـ«اللاعب الرائع» الذي يعمِّر «فكرة على فكرة، جملة على جملة، وبالطبع هناك سرعة ومهارة وحذق في العمار». الرواية مصنوعة من هذه المهارة تقريباً. لم يغامر الشاعر المتفرد النبرة بين أبناء جيله باختراع رواية كاملة فحسب، بل اشتغل على فكرة أن يكون السرد مروياً بتقنية الأصوات المتعددة، وقسّم الرواية إلى قسمين، حمل الأول عنوان «حصار»، وتناوب فيه أبطاله الأربعة على رواية الحدث وارتداداته، بينما حمل القسم الثاني عنوان «تقاطعات»، وتكفّل فيه المؤلف بتظهير تفاصيل ملموسة أكثر في سِيَر هؤلاء الأبطال ومآلاتهم. القارئ الذي (قد) تربكه سرعة تناوب الأربعة على الحدث، واختزال التعريف بهم في الصفحات الأولى، سيجد استرخاءً سردياً أكبر في الصفحات الأخيرة إلى درجة يمكن معها المجازفة بالقول إن الرواية تعثر على نفسها أخيراً بعد انشغالها بالجوانب الإجرائية لتقنية تعدّد الرواة. هكذا، يصبح الرواة الأربعة أكثر قرباً من القارئ. يصبحون من لحم ودم كما يقال، بعدما انشغل المؤلف في توصيفهم وحصرهم داخل هذه التوصيفات، حيث يمكن إضافة «عدمية» فواز أسعد والتزمّت الشيوعي لصلاح السايس، إلى نديم السيد لاعب الأفكار والكلمات الذي يتجنّب رغبة بيار مدور المثلي جنسياً فيه. توصيفات تكاد تتحول إلى حلبة ضيقة لتبادل الأفكار وصياغة خلاصات سردية سريعة، قبل أن يحمل القسم الثاني أنباءً سارّة عن «بشرية» ثلاثة من هؤلاء، بينما لا يحظى المثليّ بيار بفرصة مماثلة. هكذا، سيتزوج نديم من منال حسون (التي ستحظى بفصل خاص بها)، ويموت بتشمّع الكبد إثر طلاقه وإدمانه على الكحول، بينما يهاجر بيار إلى كندا ويعثر هناك على بديل لمحبوبه نديم. في المقابل، يتضاءل حضور فواز الذي يواصل حياته في المدينة الجنوبية بعد انتقال أصدقائه الثلاثة إلى بيروت، حيث يترقّى صلاح السايس ويصبح أميناً عاماً للحزب الشيوعي.
كأنّ عباس بيضون انتبه إلى الخلاصات السريعة التي فرضتها تقنية الأصوات عليه، فحرَّر نبرته منها، وبدأ بتصديع شخصياته، وخلق شقوق وتشوشات في سِيَرها. التصدّع الأبرز حدث في العلاقة الجنسية بين صلاح والخادمة سلوى، بينما نسي المؤلف توسيع حضور بيار أو تحريره على الأقل من سجن ميوله الجنسية المثلية، إذْ لا يُعقل أن يُحصر داخل هذه الميول طوال الرواية، وأن لا يخوض مغامرة جنسية (عابرة مثلاً) أثناء انتظاره لتجاوبٍ مستحيل من صديقه نديم.
لعل ملاحظاتٍ مثل هذه تبدو بلا وجاهة أمام مهارة عباس بيضون الهائلة في كتابة رواية تشبه ما يكتبه المحترفون في هذا الفن. لقد امتدحنا شعرية عباس في دواوينه، وامتدحنا استثماره لسيرته في روايتين، وبات عليه أن يتلقّى هذا النوع من الملاحظات طالما أنه صار روائياً كاملاً، وليس شاعراً يجرّب حظه في الرواية.