التقينا في شارع مار مخايل النهر، وسرنا قرب شركة الكهرباء، حتى وصلنا إلى صالة «غاليري تانيت» الجديدة (نائلة كتانة). دخلنا، ولم أتفوّه بكلمة. جالت وداد بنظرة سريعة على المساحة الرحبة للغرفة الأولى، وتوجهت مباشرة إلى الداخل. غرفة ثانية، أصغر حجماً، عبرتها بنية التوجه خلف ستارة النايلون التي تفصل تلك الغرفة عن مساحة ما زالت قيد الإنشاء. هنا أناديها، وأقول لها: «وداد، خلص المعرض». تقف في مكانها حائرة، فأستدرك السياق وأرشدها إلى الأعمال الثلاثة التي قدمها الفنان وليد صادق ضمن معرضه «في جهد الفقدان» الذي افتتح به صالة «غاليري تانيت».
في الغرفة الأولى الشاسعة، وفي أسفل زاوية حائط، مربع أسود رُسِم إطاره بالأبيض، وفي جزئه السفلي، خط متموّج أبيض. أما في الغرفة الثانية الأصغر، فمكعب مستطيل من الإسمنت الرمادي يتوسط الغرفة، وقبالته على الحائط، نرى مربعاً صغيراً كتب داخله «هنري ماتيس ــ الكمنجاتي واقفاً أمام النافذة» مع تفاصيل اللوحة غير الموجودة! بعد إشارتي إلى الأعمال المعروضة، توجهت وداد إلى اللوحة الغائبة، وقالت لي: «لا بد أن أحاول تخيّل اللوحة».
تركتها تحاول تخيّل اللوحة، اتجهت إلى الشاب الذي يداوم في الصالة، وطلبت منه النص الذي كتبه وليد صادق، أو بالأحرى اختار تقديمه مع المعرض، وهو جزء من حوار حول المعرض ذاته أجراه مع جاكو رستيكيان عام ٢٠١١، حين قدم العمل الحالي في «بينالي الشارقة». هكذا اختار وليد صادق منه مقطعاً بالعربية من ترجمة جاك الأسود: «... هكذا وصل بي الأمر تدريجياً إلى التفكير في عملي ضمن نطاق أربعة جهود: جهد الحداد في حضور الجثة، وجهد الطّل، وجهد الرؤية عبر الموت، وجهد الفقدان. وتفكيري في هذا الأخير هو الذي أوصلني إلى اقتراح أنّ الذين ينتظرون المفقودين يجب أن يشرعوا في تحويل انتظارهم المهدور جهدَ فقدان يتموضع عبره المفقودون ضمن غياب مضطرب من شأنه التعايش في محادثة الباقين. جهد الفقدان محاولة لتنظير ما ينبغي أن يفعلوا من أجل الحفاظ على حضور من اختفى قسراً، ولو غائباً. جهدهم يثوّي المختفي في هذا الحاضر المَطيل. لذلك لا أقارب الغياب باعتباره مرحلةً انتقاليّة بين اختفاء ومعاودة ظهور».
إلى جانب ذلك المقطع المختار من الحوار والمترجم إلى العربية، ونصّ الحوار الإنكليزي كاملاً، يزودك الشاب في المعرض، بحوار آخر أجراه الفنان مع ميسا فتوح بالإنكليزية أيضاً. لسبب مبهم قد يفسر بيقين القائمين على المعرض بصعوبة وتعقيد الأعمال المقدمة، تحصل أيضاً على مقالين عن المعرض صدرا في جريدة «دايلي ستار» و«أوريان لو جور»، طبعاً باللغة الإنكليزية والفرنسية. بعد قراءة النص الأساسي، وتصفح سريع للأوراق الأخرى، نظرت وداد إليّ وقالت بكل جدية: «انتظرني هنا. سوف أخرج وأعاود الدخول، لأتفقد المعرض من جديد برويّة». وهكذا فعلت. عدنا وخرجنا إلى مقهى قريب حيث جلسنا لننطلق في الحوار الذي اقتضته زيارة المعرض.
وداد، ليست إلا وداد حلواني، مؤسسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» التي وقفت في ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي على درج المتحف في ذكرى مرور 30 عاماً على اختطاف زوجها وتأسيس اللجنة، مطالبةً مع باقي أهالي المفقودين بحق المعرفة. يومها توجهت إلى الجيل الجديد قائلة: «إنّكم كل يوم تمشون، وتسهرون، وترقصون على مقابر جماعية موزعة تحت الأراضي اللبنانية، على جثث مفقودين من الحرب الأهلية، ومن حروب أجدد. من حقكم أن تعرفوا مصيرهم، أين هم، إن كانوا أحياء أو أموات. أين هم مدفونون، ما الذي تحتويه الأرض التي تسيرون عليها، من حقكم أن تعرفوا».
حين زرت معرض وليد صادق الجديد للمرة الأولى، لم أفهم شيئاً. عدت بالأوراق التي حمّلني إياها الشاب نفسه في المعرض إلى البيت، وقرأتها، مرة، وإثنتين، وثلاثاً... ثم عدت وزرت المعرض مجدداً. بالطبع، فوليد صادق فنان استثنائي، ومسيرته الفنية منطق، وتحليل، وفلسفة لا يمكن اختصارها بمقال ولا بنصّ. بل إنه من الفنانين المعاصرين النادرين الذين بحثوا بجدية عن لغات فنية ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية. ولسنا هنا في موضع تقويم أعماله التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من القراءة الأساسية الفنية لفترة الحرب الأهلية، وخصوصاً لتلك الفترة التي نعيشها الآن المسماة «فترة السلم». بأعماله الفنية التشكيلية ونصوصه، فتح وليد صادق (1966) نافذة مشرعة على إعادة قراءة التاريخ. لكن في مواجهة معرضه «في جهد الفقدان» الذي اختُتم أخيراً في «غاليري تانيت»، وجدتني أمام سؤال يحيرني يتعلّق بموقع العمل الفني بالنسبة إلى المجتمع الذي يقدم فيه. ورغم موقع وليد صادق بوصفه فناناً يتوجه إلى جمهور النخبة، ويرفض منطق الشعبوية، واللعب على سياقات «الإنسانية» المسلّعة في قاموس المنظمات غير الحكومية، إلا أنّ حشرية قادتني إلى اصطحاب وداد حلواني إلى المعرض، شخص معني مباشرة بالعمل المطروح، وليس مجرد أمّ، أو زوجة، أو ابنة مفقودة، بل مؤسِّسة جمعية، وناشطة، ومناضلة شرسة في سبيل حقٍ.
كان بإمكاني محاولة إعادة تركيب نص وليد صادق، وأفكاره في نص سلس. لكن كنت سأفشل في ذلك على الأرجح، لأنني لن أجرؤ على اختصار أفكاره المعمّقة وتبسيطها، فتفريغها من معناها. ولكني فضلت أن أنقل للفنان شعور شخص معنيّ بالطرح الذي يقدّمه، وتفاعله، ورأيه. في مقهى قرب «غاليري تانيت»، جلست مع وداد وأنصتّ.
فضّلت وداد الكلام من منطلق التعبير عن علاقتها بتلك الصدمة التي ولّدها المعرض لأنّها ليست ناقدة فنية. في الغرفة الأولى، شعرت بأنّ عليها الدخول أكثر، لكن المكعب الإسمنتي أوحى لها بالتابوت. حينها، أقامت الربط مع اللوحة السوداء في المساحة الأولى التي قد تكون مدخلاً إلى الحداد، حيث دفن المفقود. لكن شعورها المسيطر كان أنّ وليد صادق قام بخطفهم هم أيضاً، بالإضافة إلى مخطوفيهم. خطف حق الحداد الذي لا يمكن أن يحصل إلا عبر التماس الجثة، والتعرف إليها والتماس عَظمة، أو فك جثة المفقود. تستذكر قول موسى جدع الذي فارق الحياة من دون أن يرى ابنه: «إذا جلبتم لي عظام ابني، أستطيع التعرف إليه من دون الحاجة إلى أي فحص». تقدّر إحساس الفنان بمعاناة الانتظار، لكنها تجد أنه لا يمكنه أن يقفز بهم إلى تلك المراحل بتلك البساطة. لا يمكن أماً أن توفّي ابنها دون حق المعرفة. تنقل عن أم عصام قولها: «ماذا أفعل إذا عاد ابني يوماً وقال لي ماذا فعلت؟ لقد وفيتني؟ لم تستطيعي انتظاري؟».
تقول وداد إنّه لو كان فعلاً الحلّ في الحداد ثم الفقدان، لفعلوا ذلك منذ زمن من دون مشقة الانتظار. الجميع بإمكانه شراء ثياب سوداء، وإقامة مجلس عزاء وجنّاز، لكن الأمور ليست بتلك البساطة، أو عبر تلك الآلية. لو كانت سيارة، أو بيتاً، أو ... لكان ممكناً البكاء، والدفن، والحداد، ثم الفقدان، ولكن الكلام يطاول الإنسان هنا.
تتساءل وداد ما إذا كان وليد يشارك بذلك نية الدولة في طي ملف لم يفتح قطّ. في 2009، اعترفت الدولة اللبنانية بوجود مقابر جماعية في كل لبنان، وحددت ثلاثاً منها في بيروت، ودعت أهالي المفقودين إلى الحزن، والحداد، والعودة إلى المنازل، والافتقاد، فيما هم رفعوا دعاوى قضائية لنبش المقابر. أم أنّ وليد صادق يشارك قول أحد الوزراء بأنّ أهالي المفقودين اعتادوا التعايش مع حالة الانتظار والآن يرفضون العبور إلى الحل الذي ليس سوى حلّ وهمي؟
تؤكد وداد عدم نيتها التهجّم على عمل صادق، لكن لا يمكنها قراءته إلا من زاوية وقوفه مع الرأي الرسمي الداعي إلى النسيان. أما من ناحية الجهد المهدور، والتقصير في محادثة الباقين، فتعتقد وداد أنّ في ذلك الجهد نداءً للتنبه إلى أنّ جميع الأحياء هم مشاريع خطف جديدة. ولا ترى في ذلك إلغاءً لحياتهم وحياة أحيائهم، بل محاولة لوقف الخطف الذي ما زال يحدث حتى اليوم. الخطف والمفقودون والمخطوفون ليسوا أبناء حقبة وتاريخ ولّىا، ويمكننا الآن التنظير فيه، بل ظاهرة مستمرة في مجتمعنا حتى اليوم.
تختم وداد بأنّ «وليد صادق منعني في معرضه حتى من إمكانية أن أصرخ، أو حتى أن أذرف دمعة». هكذا قرأت وداد حلواني معرض «في جهد الفقدان» لوليد صادق. قراءة مباشرة ترتبط بواقع عايشته لمدة ثلاثين عاماً وما زالت. أما وليد صادق، فقدم معرضه، وسجّله في التاريخ، طارحاً دعوته الخاصة لإثبات الحضور... فهل أدخلنا في رحلة تعبر بنا من جهد الحداد عبر موجته السوداء، مروراً بجهد الطّل عند المكعب الإسمنتي، وصولاً إلى جهد الرؤية عبر موتِ اللوحة التي يدعونا إلى تخيّلها، فجهد الفقدان في غياب المعرض؟ يا تاريخ الفن، سجّل.