باريس | «إن في بطرسبرغ يا ناستنكا أركاناً غريبة جداً. الشمس التي تشرق لجميع سكّان المدينة، لا تنفذ إلى تلك الأماكن، بل تشرق في تلك الأركان شمس أخرى ذات ضياء خاص كأنه خُلق لهذه الزوايا التائهة وحدها دون غيرها». قد نفهم ما يحاول بطل «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي شرحه للمرأة التي تركته لألم اللقاء والفراق، حين نزور معرض «تشويق» للفوتوغرافي الروسي تيم بارشيكوف (1983) المأهول بالأخيلة والطرق السريعة، والدخان، والأضواء المتقطعة التي تُحجّر الخُطى والابتسامات.
لقطات مؤرقة تأخذنا إلى مناخات هيتشكوك التشويقية. سنتلمّس المخرج مراراً في القاعة المظلمة التي خصّصها لبارشيكوف «البيت الأوروبي للفوتوغرافيا» في باريس أخيراً. سيدفع هبوط الظلام المفاجئ في العاشرة صباحاً بعض الزوار لتذكّر الطائرة التي ابتلعها مثلث برمودا والحوار الذي دار بين القائد تيلور وبرج المراقبة «حالة طوارئ يبدو أننا قد ضللنا الطريق. لا نرى أرضاً يابسة. أكرر لا نرى أرضاً يابسة». ولنا أن نستعيد أجواء «عيادة الدكتور كاليغاري» وفكرة السيناريو التي تعود إلى تأثر هانس جانوفيتز وكارل ماير بأعمال بول ويغنر التي أوحت لهما آنذاك بكتابة فيلم رعب.
مثل مقاطع مُجتزأة من السينما التعبيرية يمتص فيها الديكور الشخصية ويجذبها نحو التجريد، نحو الاستعارة، في اتجاه الترجمة الخالصة للداخل الإنساني المفخخ بجحيمه وهزائمه، لا تراهن أعمال بارشيكوف على التفاعل العاطفي مع متلقيها بقدر تعويلها على نوع من القلق المربك والتشكيك في كل ما يراه. يكفي كرسي في غابة، امرأة غافية، يدٌ تمسك مقبضاً معدنياً، طاولة ليمونية وسط ديكور مكتظ، زجاج سيارة غارقة في مطر ناعم، لتتحول الإشارات إلى ألغاز بوليسية تورّط المتلقي في كينونة العمل وحراكه الداخلي. غياب العمق وقسوة التقابلات بين الضوء والظل، وعنف وصلابة الخط والتشويهات المبالغ فيها تأتي بإدراك جديد للمكان، حيث أصبح مُدرجاً بوصفه بناءً لذات المشاهد النفسية. إنّه الوسيط الذي يجسّد خوفنا ويأسنا، بينما موسيقى «السايكاديليك روك» المنبعثة برتابة من مكبرات الصوت تحفر دواراً داخل الرؤوس، فتدهمنا الهلوسات والكوابيس وتنقلنا إلى أجواء قصص بورخيس وإدغار آلان بو. نعم، ثمة ما يُحاك بعناية خلف الستائر والعربات المركونة على أطراف الأزقة. يأخذنا انتظار الأشياء التي ستحدث بعد قليل إلى أفكار مجنونة مؤرقة.
أسلوب عمل هذا الثلاثيني حكواتي أو سردي، مشوّق، مرتكز على سيرة المدن التي زارها والعوالم السرية الصغيرة للأفراد التي تجد حيّزاً لها في مخيلة المتفرج. لاحظ في بروكسيل وتوسكانا والبندقية وكامارغ ومدريد ضمور الفرح وسط حمّى التكنولوجيا والهواتف الذكية. البحث في مفردات مثل العزلة والقلق يتقاطع مع سيرة أشخاص يلاحقهم في أشدّ حالاتهم انغلاقاً. نرى أحدهم يغادر خلسة ويضيع بين البيوت المتلاصقة، تاركاً كل الدعوات والحفلات وأماكن الصخب، هارباً ربما إلى وحدته. وفي إحدى الزوايا، تحت أنوار بلون البلاتين، شخص متنكر بمساحيق ثقيلة وتاج كرتوني ينطوي على نفسه في صمت عميق كأنه فقد الرغبة في الحلم، كأن ليل المدينة لم يعد كافياً لقناع وسهرة طاحنة. لا يلجأ بارشيكوف للشعرية المتكلفة أو المقصودة في أعماله، فهو يكتفي بالإيحاء والملامسات الروحية بين الذات والمكان. يأخذنا إلى غرابة طيّعة ومألوفة، إلى حدائق وديعة تدير ظهرها للمدينة وطرقات ملتوية متعرجة إلى ما لانهاية، تخلّف لدينا تخويفاً غائم القسمات.
التشويق هو المخدّر الذي يسحبنا من أقدامنا لنمشي باتجاه هذه الصور المستقاة من السينما لأن ثمة ما نخمنه، ونفك شفراته ونؤوّله، نبتغي العثور خلف الأشياء على سرها وحقيقتها، وفي الدرجة الثانية، كما يقول هيتشكوك دائماً «حب التلصص على حيوات الآخرين وربما على مآسيهم، من مقعد آمن». ثم هناك المناخ: المدن الليلية العكرة، لعبة التورية والتحريف وترك الفراغات والكراسي الشاغرة وسلالم النجاة الخلفية والنباتات غير المسالمة، تبدو امتداداً مخادعاً لـ«جرائم في شارع مورغ» أو «ساعي البريد يدقّ الباب دائما مرتين» لجيمس كين أو «المغامرة» لأنطونيوني وأفلام برغمان وفيلليني وتاركوفسكي.
عقارب الساعة ستصير أبطأ ونحن نتوقع أن ينهار شيء ما على حين غرة، أن تنتشل يدٌ السيدة التي ستدلف عمّا قليل إلى الغرفة شحيحة الضوء، أو يلتفت إلينا ذلك الرجل الذي يقطع الشارع باحترام مبالغ فيه لإشارات المرور مرتدياً معطفا ثقيلاً يلامس الأرض وعلى رأسه قبعة سوداء تكومت فوقها ندف الثلج. قد يكون أحد «الوِفْنِك» الذين يحبون التحرّك في الليالي المظلمة الباردة! كان في الأرض ستة وثلاثون رجلاً بارّاً - تقول الحكاية - مهمّتهم أن يشفعوا للعالم أمام الله، إنهم «الوِفْنِك» المستضعفون. لا يعرف بعضهم بعضاً وهم فقراء معوزون. وإذا قيض لأحدهم أن يعرف أنه «وِفْنِك» مستضعف، يقضي على الفور ويحلّ محله إنسان آخر في مكان ما على هذه المعمورة. إنهم، على الرغم منهم، ركائز الكون الخفية. ولولا وجودهم لكان الله قد أفنى البشرية. إنهم مخلّصونا لكنهم يجهلون ذلك. ولا خلاص إلا بالخروج من هذه القاعة السوداء لنصحو، كمن رأى مئة حلم دفعة واحدة لا يبقى منها إلا الملامح الباهتة كغبش نوافذ باريس الشتوية.