باريس | «آسف سادتي، عليّ الاستجابة لمئات الآلاف الذين يريدون نجاح الصهيونية، وليس لدي مئات آلاف العرب من الناخبين». عبارة شهيرة للرئيس الأميركي هاري ترومان برر فيها اعترافه بدولة إسرائيل عام 1948، وتختزل «أحد جوانب المشكلة الحساسة في القوة الأميركية ونتائجها على الفلسطينيين» وفق ما يقول الأكاديمي والباحث رشيد الخالدي في كتاب «فلسطين: لعبة القوى» (Palestine:le jeu des puissants) الصادر حديثاً بالفرنسية عن سلسلة «سندباد» (أكت سود) و«مؤسسة الدراسات الفلسطينية».
في المقابل، يشير الخالدي إلى عجز القادة الفلسطينيين منذ 1940 حتى اليوم عن فهم آليات السياسة الأميركية وفشلهم في إيجاد آذان صاغية في الولايات المتحدة. هم بعكس الصهاينة «غير قادرين على استحضار شرعية في التوراة، وتأكيد دورهم الاستراتيجي لأميركا كما فعلت اسرائيل خلال الحرب الباردة وتحريك لوبي مؤيد لهم». علماً أنّ الخالدي يلحظ بداية تغيير لدى بعض قطاعات الرأي العام الأميركي حول المسألة الفلسطينية، خصوصاً في أوساط الشباب والطلاب اليهود، إذ تصاعدت الأنشطة الداعمة للفلسطينيين في الجامعات خلال السنوات الأخيرة. ولا تمانع بعض الكنائس الأميركية من النظر في العقوبات ضد اسرائيل بسبب انتهاك حقوق الفلسطينيين عبر دعم حملة «المقاطعة، سحب الاستثمارات، العقوبات». تغيير طفيف لم ينعكس بعد في سياسة باراك أوباما. دور المجتمع المدني يبرز في الكتاب كموضوع للتفكير، يشير اليه دومينيك فيدال في المقدمة، فيرى أن المجتمع المدني انتقل من مرحلة التنديد والاستنكار الى العمل، خصوصاً عبر حملة «المقاطعة» التي بدأت تحسب إسرائيل لها حساباً وتخشى تبعاتها، وترجمها الاتحاد الأوروبي بمراسيم تمنع استيراد بضائع المستوطنات، ورضخت لها شركات كبرى. ما يعني أنّ الرأي العام قد يتمكن يوماً من التأثير في سياسات القوى الكبرى لدفعها إلى «فرض الحل» بعدما أثبتت تجربة أوسلو غياب أي افق لحل الصراع في ظل احتكار واشنطن إدارة المفاوضات بصفتها «الحكم والطرف المؤيد لاسرائيل».
يلحظ رشيد الخالدي تغييراً في نظرة الشباب الأميركي إلى الصراع

يرمي الكتاب إلى محاولة فهم الدوافع التي تحدد سياسة كل دولة من القوى الكبرى والاقليمية إزاء القضية الفلسطينية من خلال سبع مساهمات لباحثين ومختصين تتعلق بتطور سياسات كل من الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وبريطانيا وتركيا وايران والدول العربية، وأخيراً الأمم المتحدة نحو فلسطين. هكذا تحمل روز ماري هوليز بريطانيا وزر «الخطيئة الاصلية»، من خلال بحث يعرض المراحل التي مرت بها سياسة لندن بدءاً من وعد بلفور وصولاً إلى تبعية تامة لأميركا، خصوصاً مع توني بلير اعتباراً من عام 2000. واليوم اذ تتحدث بريطانيا عن دولتين، فهي مجرد «وسيلة للتوصل إلى حل للصراع أكثر منه غاية»، فالبريطانيون لم يعملوا يوماً بشكل ايجابي ـ أو يدافعوا ـ عن إقامة دولة فلسطينية.
وإذا كانت القضية الفلسطينية تقرأ تاريخياً تحت عنوان «الخطيئة الأصلية» في بريطانيا، فهي «الميراث المختلف عليه» في فرنسا. المؤرخ والمستشرق هنري لورانس يقدم قراءة تاريخية تقود إلى الحروب الصليبية، وفي ما بعد دور حماية المقدسات الذي تولته باريس. وتتطرق إلى نشوء الحركة الصهيونية ودعم الدبلوماسية الفرنسية «سراً» لنشاط المتمول ادموند روتشيلد الصهيوني الرامي لتشجيع الهجرة والاستيطان في أرض فلسطين. وفي عهد الجمهورية الرابعة، كانت فرنسا منشغلة بحروبها في المستعمرات، فأقامت «تحالفاً متيناً مع إسرائيل»، ولم يتغيّر الوضع إلا بعد استقلال الجزائر ورغبة فرنسا في الانفتاح على الدول العربية. لكن «بعكس الفكرة السائدة لم يكن لفرنسا يوماً سياسة مؤيدة للعرب». وحتى موقف الجنرال شارل ديغول لم يكن كذلك كما يظهر في تصريحه بعد حرب 1967: «على اسرائيل اعادة الاراضي المحتلة في إطار مفاوضات مع الدول العربية بإشراف الامم المتحدة والقوى الكبرى للتوصل إلى اعتراف الدول العربية بإسرائيل». العرب اقتربوا تدريجاً في موقفهم من فرنسا وليس العكس. وخلال المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية منذ مدريد، بقيت فرنسا مستبعدة من دور أساسي نتيجة «ثقل» الدور الأميركي، وعندما تدخلت باريس كان دورها «توجيهياً» لدفع الفلسطينيين على الاعتراف بإسرائيل وحث الاسرائيليين على قبول دولة فلسطينية.
العمل الجماعي يتضمن بحثاً عن دور الاتحاد السوفياتي وروسيا «المتذبذب» بقلم ميشال رييل الذي يذكر بأنّ «اسرائيل جزء من فضاء الناطقين بالروسية حيث إحدى أكبر الجاليات الروسية في الخارج». ويعرض لتاريخ الموقف السوفياتي ومن ثم الروسي ازاء فلسطين. الاتحاد السوفيتي كان يحمّل بريطانيا المسؤولية أكثر منها اسرائيل ولهذا صوّت ضد القرار 194 الخاص باللاجئين. أما راهناً، فيبقى الملف الفلسطيني «ثانوياً» بالنسبة إلى موسكو وسط التحديات التي تواجهها في المنطقة، رغم أن الرئيس فلاديمير بوتين هو الزعيم الوحيد من زعماء الدول الكبرى الذي يقيم علاقات مع كل اللاعبين (اسرائيل، السلطة الفلسطينية، حماس، سوريا، ايران).
لا يقتصر الكتاب على دراسة سياسات الدول الكبرى. يتناول الجامعي الفرنسي برتران بدي دور «الدول الصاعدة» خصوصاً تركيا وإيران، معتبراً أنّ سياسة البلدين إزاء القضية الفلسطينية ــ رغم الاختلاف في المواقف ــ لا تخرج عن إطار دبلوماسية «الاحتجاج». وفيما يكتب فاروق مردم بيك عن «سياسة العجز» في العالم العربي، يرى بعد استعراض تاريخ القضية الفلسطينية في الدول العربية، أن التضامن مع فلسطين ـ وبعكس ما يقوله معلقون كثر ـ لم يكن غائباً عن الثورات العربية، مستدلاً على ذلك بالتضامن الذي ظهر خلال قصف غزة الأخير. إلا أنه يستدرك قائلاً: «إن تراجع الحراك الشعبي الذي انطلق عام 2011، واستعادة مصر للملف، والرعب اليومي في سوريا والعراق، وتصاعد النزاع الطائفي السني ـ الشيعي يحد من عزيمة الدعم للفلسطينيين». أما الأمم المتحدة في كل هذا، فليست سوى «وزارة الكلام» وفق دومينيك فيدال الذي يكتب مقدمة الكتاب ويختتمه ببحث يعرج على القرارات والمواقف التي صدرت عن الأمم المتحدة إزاء فلسطين.
لعل «فلسطين: لعبة القوى»، يؤكد ما هو مؤكد بأن القضية الفلسطينية كانت وما زالت ضحية سياسات دول كبرى، ومساومات بين قوى إقليمية ودولية، وأسيرة حسابات سياسية داخلية في بعض الدول. ومن شأن هذا العمل (185 صفحة) أن يشكل مرجعاً للمهتمين في فهم أعمق لمواقف وسياسات القوى التي تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في الشأن الفلسطيني.