منذ حفلاته في «المركز الثقافي الروسي» في أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي، شغل الفنان زياد الرحباني الناس بخبر هجرته إلى روسيا. أجواء الحدث آنذاك أوحت بأن «في شي عم بيصير/ في شي بدّو يصير»، بدءاً من عنوان الأمسيات («59 بزيادة») الذي لا يحتاج إلى تفسير، وصولاً إلى تصريحه الواضح خلال حديثٍ أجراه معه الزميل من قناة «الجديد» جاد غصن. في تلك المقابلة التي تزامنت مع «59 بزيادة»، التقط غصن المعنى المبيَّت في هذا العنوان، وأراد كشف الأسباب الكامنة وراءه، فنجح في ذلك بشكلٍ لافت، إذ اختار أسئلة صائبة بنى عليها تقريراً ممتازاً، وازَن فيه بدقة بين العاطفي والمهني. الخطة كانت تقتضي مغادرة لبنان إلى روسيا، لإقامة حفلتَين (في سانت بطرسبرغ وموسكو) ضمن احتفالات ذكرى «ثورة أكتوبر» التي لا يحلم الروس في تكرارها، لكنهم، في المقابل، لن يقبلوا إهانتها.

هذا الاعتزاز الواقعي بالتجربة السوفياتية يلخّص وضع روسيا اليوم، وهذا ما ارتاح إليه الرحباني، فوضَع إضافةً إلى الحفلتَين، احتمال الإقامة هناك. مضى شهران ونصف شهر على ذاك التصريح الذي أتت بعض الردود عليه مقززة، لكن متوقّعة، وإلا كيف يمكن تفسير انهيار منظومة الأخلاق في هذا البلد؟ مرّ الوقت وزياد لم يغادر. لم يغادر بعد أم لن يغادر؟
المؤكّد أنّ التأجيل فرض نفسه على هذه الخطوة الدقيقة جداً لأسباب عدّة. هناك أمور عدة يجب إنجازها أو بتّها قبل السفر. هكذا يحصل مع أي شخص لديه في بلده كيان: البيت، العمل، المشاريع، الممتلكات، العائلة، الأصدقاء… وفي كيان زياد، أضف إلى كل ذلك: الناس الطيّبين العُزَّل. إذاً، هل تسرّع في تصريحه وقراره؟ كلا… قُل بلغ القرف ذروته فسبَّب انفجاراً. من خلال التأجيل، أراد الرحباني تخفيف أضراره على الآخرين، فاختار التحمّل بعد. واللهِ لو نفّذ قراره غير آبهٍ إلا بنفسه لكانت الخسارة ضخمة. الزميلة ضحى شمس حثّته على الرحيل، لأنها تحبّه، فتراجع هو لأنه يحبّنا. ثم أتت حفلات صيدا مطلع تشرين الأول (أكتوبر) لتبعث أملاً نادراً: فقد كانت الأجمل منذ آخر ضربة بيانو في آخر ليلة من حفلات «منيحة» في الشام (2009). المقصود بالأجمل ليس الجانب الفنّي، بل الناس الذين أغدقوا الضيف حبّاً اعتقدنا أنه ليس موجوداً إلاّ في قلوب الجمهور السوري العظيم.
الآن الأوضاع هادئة. هدوءٌ مقلقٌ. المشاريع كثيرة والخطط الموضوعة لإنجازها سَلَك بعضُها آلية التنفيذ. أعمالٌ للشاشتَين الكبيرة والصغيرة. وأخرى موسيقية: بدون مبالغة، عشرات الأغنيات (رَشَح منها «صَمَدوا وغَلَبوا» في حفلات صيدا) والمقطوعات الموسيقية تنتظر تنفيذاً محترماً… أو تنتظر بلداً محترماً قد يكون روسيا وقد يكون ألمانيا أو كِلا الجبّارين (لناحية البنى التحتية الموسيقية).
في هذه الأثناء، لا بدّ من تمضية بعض الوقت في الاستماع إلى الموسيقى. لكن بدل دعوة الأصدقاء (أي كل الناس) إلى داره، يختار الرحباني من حين إلى آخر مكاناً أوسع بقليل، حيث فرقة موسيقية تحلّ مكان شريط مسجَّل. ما أجمل هذا الحلّ.
هكذا، يحيي زياد الرحباني مع فرقته (خالد عمران، آبريل سنترون، الياس المعلّم، طارق خلقي وعادل منقارة) أمسية وحيدة في نادي Nova (سن الفيل) مساء السبت المقبل. هذا المكان مقصودٌ تاريخياً من الشباب المتوسّط الحال للاستماع إلى الموسيقى الحية. مكانٌ لا يشبه سواه في أجوائه المريحة التي باتت نادرة.
في أحد مقالاته كتب زياد: «طالع عبالي كتير إشيا، بس المهم اقدر أعملها. يعني لازم أفضى لإقدر اعملها، بس مش عم أفضى. شو بقدر أعمل، لإقدر أفضى لإقدر اعملها؟». ربما هذا هو السبب الرئيس في تأجيل الهجرة. سببٌ قد يؤدي إلى تأجيل دائم. لكن تبقى المشكلة الأكبر في نيّة الرحباني الثابتة لترك البلد. إنّ ما باستطاعته القضاء على هذه النيّة هو ما يجب مناقشته وليس السفر أو تأجيله أو إلغاؤه… ففي ذلك خلاصنا جميعاً.

* أمسية لزياد الرحباني: 22:00 مساء السبت المقبل ـــ NOVA (سن الفيل) ــ للاستعلام: 03/677288