عن نص الأميركية بولا فوغل، اقتبست لينا خوري مسرحية «كيف تعلمت القيادة» (1997 ـــ انتاج «الجامعة اللبنانية الأميركية») التي انطلقت أخيراً باللغة الإنكليزية على خشبة «مسرح غلبنكيان» في حرم الجامعة (قريطم ــ بيروت)، وتستمر حتى 13 كانون الأول (ديسمبر).
جرأة اختيار المخرجة اللبنانية لهذا النص، لا تتمثل في مواضيع المسرحية التي تعدّ من المحرّمات في مجتمعنا فحسب، بل أيضاً في النص الخالي من محاكمة شخصياته على الخشبة، وهنا تحديداً تكمن الصعوبة.
في العرض، تتحدث فتاة عن مراحل تعلمها القيادة المترافقة مع تعرضها للتحرش من قبل زوج خالتها الذي تولى تعليمها القيادة. هكذا باختصار يبدأ المشهد الأول: ليتل بت (تمارا بوبوفيك) الفتاة الشابة مع العم الأربعيني باك (سامي حمدان) على مقعد سيارة «شفروليه» حمراء موديل عام ١٩٦٩. يمر العمل بدقة أمام فصول البيدوفيليا التي ترتكز إلى لطف المتحرّش ورغبة الفتاة في الحصول على حنان، وتفهم لطموحاتها التي سخر منها محيطها المحافظ في ميريلاند.
مجتمع لم يكتف بالسخرية من أفكارها ورغبتها في الدراسة وفي معرفة شكسبير فحسب، بل سخر أيضاً من صدرها الممتلئ. لقد أصبحت منذ سنوات المراهقة غير مرئية إلا من خلال أحاديثها المتكررة مع العم باك الذي يعاني بدوره من مشاكل طفيفة مع معاقرة الكحول.
هنا يبدأ المسار: مسار فردين يتّحدان في هشاشتهما. هو أيضاً مسار تحرشٍ لن تهرب منه الفتاة بسهولة، إذ تبدو متواطئة مع رغبات باك لتثبت قوتها واختلافها.
تظهر حساسية كاتبة النص بولا فوغل في معالجة موضوع معقّد كالبيدوفيليا وسفاح القربى. لا تضع مجهرها الدرامي أو المسرحي على شخصيتي العم باك وعلى ليتل بت لتخرج منهما بمواقف مبتذلة تدين أحدهما.
حتى أنها لا تشرح الخلفيات التي تدعو المتحرش إلى ارتكاب جريمته بحق طفلة في الحادية عشرة. قدّمت فوغل مجموعة من مواقف «الفلاش باك» من وجهة نظر أحادية. إنّها وجهة نظر المرأة بت التي أصبحت في الـ ٣٥ من عمرها، وتحاول التصالح مع نفسها ومع رجل أحبته فعلاً وكرهته في الوقت نفسه. لقد أحبته بديلاً لأصدقاء لم تحظ بهم، وتعويضاً عن فقدان الأب الذي لا تعرف عنه شيئاً.
أما كرهها، فناتج من تلاعبه بها لأعوام واستغلال حاجتها للحنان، لينتهك نعومة جسد صغير لم تبرز ملامح أنوثته بعد.
تنوّعت أنماط التمثيل بين البريختية والأداء الواقعي والهزلي


كرهته لأنه شوّه علاقتها بالرجال. كرهته وكرهت جسدها الذي ما عادت تعرف الولوج اليه. يمر نصّ بولا فوغل على منظومة «العائلة» التي تتواطأ غالباً عبر تجهيل متعمّد لكل ما يتعلق بأمور الجنس والرغبة أمام فتاة على أبواب المراهقة. التواطؤ الأكبر للعائلة يبدأ حين يعرف معظم أعضائها أنّ هناك معتدياً ومعتدى عليه ويلتزمون الصمت.
على الخشبة، لا يبدو هذا النص سردياً. لعبت مشاهد الفلاش باك وتسلسلها دوراً جوهرياً في بحث الشخصية الرئيسية عن التصالح مع ذاتها. بنية تحليلية تشكل خريطةً داخلية للفتاة ــ المرأة بت، تنتهي بانفصال بت المرأة عن الفتاة التي تعرضت للتحرش الجنسي.
هذا ما يفسّر لجوء خوري في المشهد الأخير إلى جعل إحدى ممثلات «جوقة المجتمع» تؤدي دور لحظة التحرش الأولى، في حين كانت الممثلة تمارا بوبوفيك ــ التي لعبت طوال العرض دور بت في كل الأعمار ــ تراقب هذا المشهد. في تلك اللحظة بالذات، تحرّرت المرأة. تميز العرض بأداء شفاف للممثلَين الرئيسيين، بينما لم يكن الخيار الذي اعتمدته خوري في ادارة الممثل موفقاً في بعض الأحيان.
لقد اختارت كمخرجة التلاعب بأنماط التمثيل الذي تنوع بين البريختية، والتمثيل الواقعي والهزلي (Burlesque).
بدا ذلك مبرراً في مواقف معينة ومبالغاً في استخدامه في مواقف أخرى، وتحديداً في منح كل مشاهد العائلة والأصدقاء (الجدة، الخالة، الجد، والأم، ورفاق الدراسة) طابعاً هزلياً طوال الوقت.
قد يكون تضخيم آفات المجتمع وإلباسها طابعاً هزلياً مبرراً، إلا أنه في هذا النص الذي لا يسعى إلى اطلاق الأحكام على أحد، كان مهماً أن تجتمع جوقة المجتمع هذه ولو في مشهد واحد فقط لكسر كل تلك المشاهد الهزلية. لكان ذلك أعطى جماليةً وبعداً مختلفين لخيار خوري الإخراجي.
أما عن السينوغرافيا المعتمدة في العرض، فتمثلت في كنبة جلدية حمراء هي المقعد الأمامي لسيارة قديمة، ومجموعة من المكعبات الضوئية ذات استخدامات متعددة كما لو أنها المجهر الذي يفضح للمشاهد كل شيء وشاشتين مواربتين في الخلفية تشكلان ــ حين تجتمعان ــ سقف منزلٍ مائل.
هناك جهد يجب الإشادة به في هذا العرض رغم بعض الهفوات التقنية أو الخيارات الإخراجية التي قد لا تعجب بعضهم.
هناك واجب فني أخلاقي على «الجامعة اللبنانية الأميركية» والمخرجة لينا خوري أن يأخذاه على عاتقهما ألا وهو السعي لترجمة هذا العرض أو اقتباسه الى اللغة العربية، خصوصاً حين نعلم أن ١٦٪ من أطفال لبنان يتعرضون سنوياً للتحرش الجنسي وغالباً ما يكون ذلك من قبل ذوي القربى. أما الامتحان الحقيقي لعرض «كيف تعلمت القيادة»، فيظهر حين يخرج هذا النص إلى اللغة العربية ويصبح أكثر اتاحةً أمام الناس.

* «كيف تعلمت القيادة»: حتى 13 كانون الأول (ديسمبر) ــ «مسرح غلبنكيان» (LAU ــ قريطم ــ بيروت) ــ للاستعلام: 01/786464